Friday, September 08, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -خاتمة

إن الدرس الأعمق و الأكثر أهمية في كل ما حدث خلال الثلاث و الثلاثين يوما هو أنه يؤكد بشكل لا يقبل الجدل أن قدرة الصغار على التأثير في عالم اليوم أصبحت تتعاظم بشكل راسخ غير قابل للارتداد. إن الأفراد و الجماعات في عالم اليوم يكتسبون قدرات متعاظمة على التأثير في مجريات الأحداث داخليا و خارجيا، و ما تتيحه تكنولوجيا العصر و ثورة الاتصالات من إمكانات تتزايد بشكل متسارع أضاف لهذه القدرات الفردية أسلحة إضافية تختصر الزمان و المكان. إن جوهر القوة اليوم يكمن في البقاء للأسرع و قد أكدت أحداث الثلاث و ثلاثين يوما كيف تمكنت مجموعات صغيرة بقدرتها على الضربات الخاطفة و المباغته أن تتغلب على ضخامة و شدة الآلة العسكرية لرابع أقوى جيوش العالم و بالتالي لكل أولئك الباحثين عن دور في قضية التغيير اليوم أن ينظروا تحت أقدامهم و في مجالهم الأضيق فسيجدون الكثير الذي من خلاله يستطيعون أن يحدثوا فرقا فقد تبدلت الأدوار اليوم فلكل منا دوره داخل متر مربع صغير و لكنه قد يكون الركيزة الأساسية في صنع الغد القادم

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -3

و تداع خامس يمكن رصده بشكل واضح متمثلا في اختفاء حدة الألوان التي كانت سائدة عشية اندلاع المعارك فكثير من المراهنات و الانحيازات الواضحة توقفت مع دخول المعارك يومها التاسع بسبب الرفض الأمريكي المتعنت لوقف إطلاق النار مما أحرج كثيرا من الأنظمة في المنطقة الذين راهنوا بانحيازهم الكامل إلى الموقف الأمريكي الإسرائيلي على كسر شوكة المقاومة اللبنانية تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو ضرب الامتداد الإيراني في المنطقة. و مع زيادة حدة المعارك و سقوط المزيد من القتلى المدنيين دخلت كثير من المواقف الرسمية العربية في حالة من انعدام الوزن و فقدان الاتجاه و بدا واضحا و للمرة الأولى حتى لأكثر الأنظمة العربية صداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تقف موقفا محايدا أو ما يسمى الوسيط النزيه في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت حالة الأنظمة العربية مثل المعلقة في الهواء لا هي متجذرة في شوارعها و لا هي قادرة على التبني الواضح و الصريح للموقف العدائي الأمريكي السافر. خلاصة القول أن الإدعاءالرسمي العربي بأن أمريكا يمكنها أن تكون وسيطا نزيها في حل النزاع قد انتهت إلى غير رجعة بسبب معارك الثلاث و ثلاثين يوما.

و لعل هذا التداعي يقود مباشرة إلى تداع أكثر عمقا و يتجسد في المعضلة التي تجد الأنظمة العربية نفسها فيها اليوم، فهي الآن بين شقي الرحى. فانتصار حزب الله كنموذج لتيار إسلامي مقاوم يتصف بالعصرية و الوطنية في آن واحد يخيف الأنظمة العربية ليس فقط من انتشار نفوذه و مريديه داخل الشوارع العربية و لكنه قد يشكل نموذجا يحتذى لكثير من الشباب العرب خصوصا في ظل خواء الأنظمة و عدم وجود قوى سياسية أخرى لها من المصداقية و الإقناع ما يجعلها منافسا محتملا في النفوذ و التأثير لنموذج حزب الله. و في الطرف الآخر فإن اتخاذ موقف عدائي معلن من حزب الله قد يصنف هذه الأنظمة كما كان الحال في بداية الحرب بأنها تقف مع الولايات المتحدة و إسرائيل في خندق واحد في مواجهة قوى المقاومة الوطنية الأمر الذي سيزيد من اتساع الهوة بين هذه الأنظمة و شعوبها و بالتالي يدفع بأزمة شرعية تواجدها إلى آفاق أبعد.

و تأسيسا على هذا التحليل بالذات يمكننا قراءة و فهم المحاولات العربية الرسمية محاصرة التأثير السياسي المحتمل لحزب الله بعد الحرب و ذلك باتباع خطين متلازمين يشكلا في التقائهما سورا عاليا تحاول من خلاله الأنظمة تحجيم الدور المستقبلي لحزب الله و عزله عن أي تأثير محتمل في الشارع العربي. الخط الأول هو الادعاء علانية بأن حزب الله يمثل اليد الطولى لإيران و بالتالي فإن الوقوف ضده هو وقوف ضد الأطماع الفارسية في المنطقة و تحجيم للنفوذ الشيعي الذي بدأ يشتد و ينتشر خصوصا في ضوء ما يحدث في العراق. و الخط الثاني هو محاولة ربط الدمار الهائل الذي تعرضت له البنية التحتية اللبنانية و الإقتصاد اللبناني و أعداد القتلى المدنيين بسبب وحيد يتمثل في أسر الجنديين الإسرائيلين و "التصرف غير المسؤول لحزب الله". الهدف الأبعد لهذين الإدعائين هو خندقة حزب الله و حصره في موقف المدافع و من ثم منعه من جني ثمار انتصاره و صموده و بالتالي منع تعاظم نفوذه في المنطقة العربية، و في حالة تحقق ذلك فإن حزب الله يخسر سياسيا ما كسبه في معارك الثلاث و ثلاثين يوما. و من هذا المنظور تحديدا لعلي أخالف السيد حسن نصر الله الرأي بأنه لو كان يعرف مسبقا حجم الرد الإسرائيلي ما كان ليقدم على عملية أسر الجنديين الإسرائيليين. إن مثل هذا المنطق يعطي المبرر و المصداقية للإدعاء الثاني الذي أشرنا إليه آنفا مما قد يدفع إلى ترسيخه و تأجيج حدته.

إن اسكتمال متطلبات النتائج السياسية لمعركة الثلاث و ثلاثين يوما تستدعي من المقاومة اللبنانية التأكيد على أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين كانت إجهاضا مبكرا للمخطط الإسرائيلي المعد مسبقا بإيعاز و تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية بتصفية حزب الله كما هو الحال مع حماس تحت ذريعة محاربة و تصفية بؤر "الإرهاب الإسلامي" في المنطقة. كما تستدعي النتائج السياسية للحرب أن يستثمر حزب الله قواعد شرعيته الشعبية التي تأسست في كل الشوارع العربية و ألا ينجر إلى موقف دفاعي يحاول من خلاله نفي الإدعائين السابقين.

و لعله تلوح في الأفق البعيد بوادر إرهاصات أولية لتحالفات قد تتغير في المنطقة في حالة واصلت المقاومة صمودها في العراق و لبنان و فلسطين. قد تتهاوى أنظمة و قد تتغير أوراق اللعب، كانت المصلحة الأمريكية طيلة التاريخ الأمريكي و لا زالت هي المحرك الأول للسياسة الخارجية الأمريكية و لو تبدى صانع السياسة الأمريكي و اتضح أن من يحركون الأحداث و يؤثرون في حركة الشارع العربي في هذه المنطقة من العالم هو غير حلفاء و أصدقاء الأمس فلن تتورع إدارة البيت الأبيض أيا كان نوعها في محاولة مد جسور التعارف أولا ثم الصداقة لاحقا مع من يملكون القدرة على التأثير في صنع مستقبل المنطقة سياسة و اقتصادا. و قد يبدو هذا التداعي غريبا و يخالف المنطق الأيديولوجي لدى الكثيرين، إلا أن استقراء السياسة الخارجية الأمريكية منذ مبدأ مونرو و حتى الآن تدعم جنون قراءة هذه الإرهاصات.

Tuesday, September 05, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -2

تقودنا القراءة السابقة إلى التداعي الثالث للحرب السادسة و الذي يعتبر في رأيي أكثر التداعيات أهمية من الناحية الاستراتيجية و الذي يتمثل في إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي بين العرب و إسرائيل، ذلك الميزان الذي كان دائما و منذ نشأة الدولة اليهودية في صالح إسرائيل باستثناء الخمسة أيام الأولى من حرب أكتوبر 1973. إن نظرة إسرائيل لذاتها و نظرة الآخرين لها بأنها الدولةالتي لا تقهر قد ترسخت على مر السنين بسبب الهزائم العربية المتتالية. و قد انتقلت هذه النظرة منذ ثمانينات القرن الماضي و بشكل تدريجي متصاعد إلى كثير من أنظمتنا العربية حتى تحولت إلى قناعة راسخة وخطاب رسمي معلن يدعو إلى استحالة المواجهة العسكرية مع الآلة العسكرية الإسرائيلية و بالتالي ضرورة الإلتجاء إلى ما يسمى بجهود السلام كحل وحيد للصراع العربي الإسرائيلي. و بغض النظر عن مخالفة مثل هذا الخطاب لأبجديات علم السياسة الذي يحدد أن أية جهود دبلوماسية لحل الصراع دون استنادها إلى قوة تحميها هو جهد استسلامي يفرط و لا يصون، فإن خطورة هذا الخطاب تتمثل في انتشاره إلى الأجيال الجديدة و التي لم تشهد أيا من المواجهات العربية الإسرائيلية فيتحول عندها إلى قيم راسخة و ثقافة سائدة.

و من ثم فإن ما أنجزته المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله يشكل كسرا حادا لهذا الاتجاه و التوجه و يرسم إنموذجا مشرفا أمام ألأجيال الشابة يشعرها بالفخار و الكبرياء و ذلك من خلال استعادة الثقة بالنفس و كسر أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر" . إن إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي يشكل ركيزة استراتيجية و أساسا قويا لأية مواجهات قادمة بين المقاومة و إسرائيل. إن التحقيقات التي تجري الآن في إسرائيل لكشف أسباب إخفاقات الجيش الإسرائيلي المتعددة أثناء الحرب تجسد في معناها الأعمق محاولة إسرائيلية لاستعادة صورة الذات التي تزعزعت و محاولة إصلاح ما أفسدته ضربات المقاومة اللبنانية في الوعي الجمعي الإسرائيلي، ذلك الوعي الذي يشكل الجوهر في وحدة الشعب الإسرائيلي.
و معارك الثلاث و ثلاثين يوما تحمل معنى خاصا و دلالة ذات مغزى لصانع
السياسة الخارجية الأمريكية و هو يخطط حركته المستقبلية تجاه إيران، فقد يكون ما حدث هو إنذار مسبق لما يمكن أن تؤول إليه أي مغامرة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران خصوصا لو اتخذت تلك المغامرة شكل تدخل عسكري بري في الأراضي الإيرانية. و المغزى الآخر الذي لا يقل أهمية هو ما يمثله درس المقاومة اللبنانية بالنسبة للمخطط الاستراتيجي في المنطقة الذي كان يهدف و لا يزال إلى تصفية مراكز ما يعرف بالإرهاب الإسلامي. قد تكون هذه محطة توقف غير متوقع أفسد كثيرا من الحسابات خصوصا أنه سيؤجج حدة المقاومة في العراق، كما يرسم نموذجا محفزا لحماس في الأراضي الفلسطينية حتى و إن اختلفت ظروف الجغرافيا و اعتبارات وحدة القرار.
و تداع رابع يستحق الرصد و الحوار يتجسد في المؤشرات الواضحة التي كشفت عنها معارك الثلاث و ثلاثين يوما و التي تدل بشكل قاطع على ما حصل في التخطيط و الإدارة العلمية للمعارك فمفاجآت التطوير التكنولوجي أيا كان مصدره و الذي تبدى في الأسلحة المضادة للدبابات و أنواع الصواريخ المتعددة المدى و كذلك عمق الأنفاق التي حفرت بما يتجاوز مدى القنابل الأمريكية الموجهة بالليزر و الاختراق الواضح للأجهزة الأمنية الإسرائيلية و كذلك نجاح حزب الله في الحفاظ على كل خططه و مخططاته في طي من الكتمان و بعيدا عن الإختراق المخابراتي الإسرائيلي، كل ذلك يشير بوضوح إلى عقلية علمية فذة في تخطيط و إدارة المعركة بشكل غير مسبوق في تاريخ مواجهاتنا مع العدو. إن التخطيط و الإعداد هذا كان العامل الفيصل وراء المفاجآت المتعددة التي أربكت الإدارة الإسرائيلية للمعركة بدءا من ضرب البارجة الإسرائيلية و مرورا بتدمير العديد من دبابات الميركافا و انتهاءا بطول مدى الصواريخ التي اطلقت على إسرائيل و التي ظل آخر مدى لها لغزا لم يكشف حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إن التخطيط كمهارة أعدت للمعركة و أدارتها يشكل علامة بارزة في النموذج الذي يقدمه حزب الله حتى في أمور و مجالات الحياة الأخرى حتى قبل الحرب. و تتمثل الأهمية الاستراتيجية لهذا النموذج في أنه يقدم ردا عمليا على دعاوى اتهام النموذج الإسلامي بالإرهاب و التخلف و البربرية. إن هذا النموذج الإسلامي المتحضر يتجسد بشكل جلي في انضباطيته العالية في إدارة المعركة حيث كان استهدافه الأول للآلة العسكرية الإسرائيلية مستبعدا أية أهداف مدنية من عملياته في الوقت الذي كانت الأهداف المدنية أولوية واضحة في هجمات و عمليات العدو الإسرائيلي تشهد بها أرقام القتلى من المدنيين مقارنة بما سقط من شهداء من حزب الله.

و من تجليات هذه الإدارة العلمية للمعركة كان نموذج الإدارة الإعلامية لها مقارنة بالإدارة الإسرائيلية للمعركة، فقد اتضحت أبعاد المصداقية التي اكتسبتها المقاومة اللبنانية إعلاميا مع توالي المعارك الحربية مما أكسبها مصداقية عالية حتى لدى وكالات النباء العالمية في الوقت الذي فشلت فيه الإدارة الإسرائيلية في تقديم البراهين و الدلائل على كثير من ادعائاتها و قد وصل ذلك الفشل إلى مأزق إعلامي حقيقي إبان حدوث مذبحة قانا. إن التناول الإعلامي الرصين و الصادق مضافا إلى التخطيط العلمي الذي سبق و واكب المعارك قد ساهم في رسم صورة إيجابية لنمط قيادي من نوع جديد سرعان ما التفت حوله الشوارع العربية، و لعل سرعة التفافها هذا يعكس ليس فقط شعورا طبيعيا للشارع العربي إبان المواجهات مع العدو الإسرائيلي و لكنه يجسد أيضا تعطشا شعبيا لوجود قيادة مقنعة تكتسب شرعيتها من تجسيدها لأحلام الشارع العربي أكثر من استنادها إلى شرعية السلطة، و لعل هذا الأمر الأخير في حد ذاته يعد مؤشرا غير إيجابي بالنسبة لكثير من الأنظمة العربية الرسمية التي راهنت على سقوط حزب الله في ساعات أو أيام المعركة الأولى فإذا بالنتيجة تأتي عكس توقعاتها و مخيبة لأمالها.

Monday, September 04, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -1

جديدة هي بكل المقاييس تجربة الثلاثة و ثلاثين يوما من المقاومة و الصمود و الكبرياء على تاريخنا العربي المعاصر، و من ثم فإن التسرع في إصدارالأحكام و بلورة الرؤى و إسهاب التحليلات قد تكون كلها غير ذات جدوى سواء في شكلها أو في مضمونها.

و لعلي أدعي أن إطار الإدراك العربي في تاريخه المعاصر و بالتحديد في نصف القرن الماضي و ما أفرزه من مفاهيم و أدوات تحليل شكلت خطاب المثقف العربي لا تستطيع جميعها أن تتعامل مع حجم و مضمون ما تم في الثلاثة و الثلاثين يوما، فأدوات تحليلنا كانت و لا زالت في معظمها أدوات رد فعل لهزائم و انكسارات متتالية تبحث عقب الهزائم و الانكسارات عن أسباب لتلك الهزائم و عن متهمين وراء الانكسارات و بالتالي كان الخطاب في مجمله خطابا نقديا يتصف بجلد الذات أو جلد الآخرين. و أدوات تحليل بهذه الصفة لا يمكنها أن تتعامل أو تصلح لفهم ما حدث في الأيام الثلاثة و الثلاثين و بالتالي قد نكون في حاجة لإطار إدراكي مختلف و أدوات تحليل مختلفة تعين على فهم ما حدث و استقراء تداعياته.

فلا بد لنا من إعمال أدوات إبداعية تساعدنا على تخيل ماذا يمكن أن يحدث للتحالف الأمريكي الإسرائيلي لو تكرر ما حدث في الثلاثة و ثلاثين يوما مرة أخرى أو مرتين. هل يمكن أن يحدث ذلك شرخا في قناعة أمريكية راسخة عبر الزمن و أكدتها الهزائم العربية المتتالية بأن إسرائيل هي الأمين القوي الحارس للمصالح الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة؟ و هل لشرخ آخر أن يتبلور في الوعي الاسرائيلي الجمعي حول الدولة الحصينة التي لا تقهر؟ و هل يمكن لذلك الشرخ أن يتعمق و يزداد اتساعا بشكل يجعل إسرائيل مهيئة نفسيا لفكرة السلام و هو ما قد يعطي جهود السلام فرصة حقيقية و أصيلة قد تكون هي الأولى من نوعها منذ نشأة إسرائيل و حتى الآن؟

هل يمكن لتداعيات بهذا الحجم و الأثر أن تتبلور و تتطور في الزمن المنظور؟ أعتقد أنها في مجملها جديرة بالحوار و التحاور بدلا من انغلاق الفكر و المفاهيم و أدوات التحليل داخل أسوارها التقليدية المجسدة في فكر المؤامرة أو التصنيفات أو خلافات الأيديولوجيا.

تداع آخر لعله هو أيضا جدير بنقاش و مناقشة و هو كيف تمكن حزب الله من امتلاك زمام المبادرة طيلة الثلاثة و ثلاثين يوما من المواجهة مع الآلة العسكرية الإسرائيلية و كيف أدى ذلك إلى إفقاد المخطط الإسرائيلي لتوازنه و دفعه إلى جملة من ردود الأفعال العصبية المتتالية. ماذا لو انتقل زمام المبادرة و تحول إلى منحى و توجه في مجالات السياسة العربية الرسمية و في مجالات العمل الشعبي العربي و في مجالات الاقتصاد و في مجالات الثقافة مجسدة في مبادرات التجديد الفكري و الإبداعي. إن امتلاك زمام الفكر و المبادرة و ما أحدثه من آثار إيجابية حددت و حسمت مسار المواجهة هو المسؤول الأول عن إطالة مدة الحرب لفترة أطول بكثير جدا مما توقعه الإسرائيليون و حلفاؤهم من خارج المنطقة و داخلها
هاتان فكرتان حول التداعيات الممكنة التي لم تحظ بالانتباه أو الاهتمام من قبل محللينا و مفكرينا ستتلوهما أفكار أخرى مما لم يطرق بعد رغم أهميته القصوى و في هذا الوقت بالذات.

Sunday, September 03, 2006

مراسم التعزيه في الشارع العربي رقم صفر

د‏.‏ محمود جبريل

ايقظه مذعورا من مماته صوت صواريخ كروز وازيز القاذفات الامريكيه وهي تدك ارجاء بغداد فتحصد الابرياء بالمئات بغداد عاصمه عربيه اصيله ومعقل الخلافه الاسلاميه التليد تحترق ضرب جدران قبره بيدين ضعيفتين بعث لهيب الغضب الذي يعتمل داخله فيهما قوه احدثت فجوه في جدران القبر فلملم اكفانه وخرج يجري الي شوارع المدينه العامره ليشارك الجموع غضبها وفعلها الرافض‏..‏ الشوارع صامته الحياه تسير حسب وتيرتها اليوميه ولا شئ يعكر الصفو‏..‏ لابد ان هناك خطا ما‏..‏ لم يصدق‏..‏ اتجه الي اقرب كشك لبيع الجرائد ليطالع عنوانها الرئيسي سلسله هجمات مفاجئه علي العراق بصواريخ‏(‏ كروز‏)‏ والقاذفات الامريكيه‏..‏ صاح في البائع الذي كان مشغولا ببيع قطع من شيكولاته مارس و الكيت كات لطفله صغيره‏..‏ دول ضربوا العراق ولاد الكلب نظر اليه البائع في استغراب ليه‏..‏ وهي دي اول مره‏..‏ ما كله من ابن‏..‏ هو السبب في كل ده‏..‏ جاب الخراب لبلده ولشعبه‏...‏ رد في جنون بس دول بيدمروا البلد ويقتلوا الابرياء انا مالي ومال ابن‏..‏ هم بيضربوه هو والا بيضربوا العراق‏..‏ انت بتقول نفس الكلام اللي هم بيقولوه ان احنا بنضرب صدام وبندمر قدرات صدام‏..‏ ايه اللي بيحصل ده وهو انا فين بالضبط‏..‏ رمي بالجريده ارضا واندس بسرعه في الزحام يلتقط اخبار تدمير بغداد ووقعها علي الناس وتتالت المشاهد امام عينيه السيارات الفارهه‏..‏ اعلانات الكوكاكولا والبيبسي وماكدونالدز وكنتاجي فرايد تشيكن‏..‏ وحس بغربه شديده واعياه المسير فلجا الي اقرب مقهي لينال شيئا من الراحه لجسده الواهن‏,‏ ولفت انتباهه حوار ساخن يدور بالقرب منه حول مدي تاثير ضرب العراق علي اسعار البورصه واسعار البترول وهل لو سقط نظام صدام ستكون هناك فرص عمل كبيره لاعاده بناء بغداد ام يا تري سيكون كله من نصيب الشركات الامريكيه؟ولفت كفنه البالي وضعفه الشديد انتباه احد المشاركين في الحوار فدس في يديه ورقه ماليه يعينه بها‏..‏ فكر مليا فيما يحدث ثم خطر بباله الاتجاه الي النخبه المثقفه اولا فهي التي تقود دائما فهؤلاء البسطاء في حاجه للتوعيه والتنبيه وقبل كل ذلك في حاجه الي تنظيم وقياده‏..‏ وان لم يفلح هذا الاتجاه وسيتوجه لكل المنظمات الاهليه بجمعياتها ونقاباتها واتحاداتها فهي الاوعيه المناسبه لتجسيد الرفض وللحشد والحركه‏.‏ واستقل سياره تاكسي كانت تقل سيده شابه وطفلتها‏,‏ واستلقي بجانب السائق الذي بدت علامات التافف علي وجهه عندما راي منظره الا انه انشغل عن كل ذلك بمتابعه حوار يجريه البرنامج العام مع استاذ العلوم السياسيه اللامع والشهير الذي اسهب في تحليل اسباب الهجوم الامريكي لتدمير بغداد حازما ان اصرار مجلس النواب الامريكي علي توجيه اربعه التهامات للرئيس كلينتون في قضيه مونيكا لونيسكي‏,‏ وكذلك فشله الذريع في اقناع رئيس الوزراء الاسرائيلي بالانسحاب حسب اتفاق واي بلانتيشن رغم وعوده بتقديم مساعدات باكثر من مليار دولار لاسرائيل‏,‏ كل ذلك كان السبب الرئيسي للهجوم الامريكي علي العراق في محاوله من كلينتون لتحويل الانظار الي مناطق سهله يستطيع ان يسجل فيها انتصاراته‏,‏ واكد المحلل الكبير في نهايه اللقاء انه بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقيه والتعاطف القومي‏,‏ فان اسقاط نظام صدام سيعيد الاستقرار للمنطقه هو الامر الذي سيدفع عجله الاستثمار والنمو الاقتصادي في المنطقه الي الامام‏.‏امتدت يد السائق تعبث بمؤشر الراديو وهو يزمجر هو احنا جابنا ورا الا السياسه‏..‏ دي كانت بلد ولا الجنه‏..‏ اصل انا اشتغلت هناك خمس سنين‏..‏ خساره والله‏..‏ كان علي وشك ان يستدرج السائق الي حوار عن شعوره تجاه تدمير بغداد الا ان صوت السيده في الخلف وهي تحاول اقناع طفلتها بتناول الغذاء في البيت بدلا من بيتزا هت الذي كانت الصغيره تلح في الذهاب اليه باصرار غريب حال دون ذلك‏..‏ طلب من السائق ان يتوقف امام مبني احدي منظمات العمل الاهلي وهي مؤسسه عريقه تضم لجنه متميزه من الشخصيات المعروفه بتاريخها النضالي وتوجهاتها الوطنيه المشرفه‏,‏ دلف علي عجل الي المبني واسترعي انتباهه الملصقات العديده في بهو الاستقبال تعلن عن مشاريع المنظمه وندواتها‏,‏ وتوقف بشكل خاص امام احد الاعلانات عن مناظره الاسبوع الماضي حول التمويل الامريكي للعمل الاهلي بين القبول السافر والرفض الخجول بين اثنين من الشخصيات العامه المعروفه وبينما هو في تجواله بين الاعلانات والملصقات راي امين عام المنظمه الذي كان مستغرقا في حديث جاد حول الهجوم الامريكي علي بغداد مع احد الاشخاص لابد من اعداد بيان باسم المنظمه لاستنكار ما حدث فمهما كان راينا في صدام فالذين يموتون هم اطفال وابرياء العراق‏..‏ ورد الشخص الاخر انا رايي مش كفايه يا فندم لا بيان استنكار ولا حتي ندوه نحشد فيها كل القوي الوطنيه ونقول فيها بيانات الاستنكار‏..‏ انا رايي لازم نعمل حاجه اكبر من كده‏..‏ انت عارف في الظروف اللي احنا فيها‏..‏ حتي بيان استنكار وادانه باسم كل القوي الوطنيه مش سهل ابدا علي بال ما نتفق علي مضمون البيان والصياغه تكون الحرب خلصت‏.‏كانت اخر خيوط الشمس قد بدات تتلاشي عندما غادر مبني المنظمه العريقه وبدات اضواء المدينه تضفي شكلا جماليا رائعا وهي تستعد لاستقبال الشهر الكريم‏,‏ ووسط كل هذه الاضواء تبدو اضواء اعلانات ثقافه الماكدونالدز راسخه شامخه مؤكده ان تغيرا جذريا قد عصف باولويات الشارع العربي‏,‏ وتزاحمت التساؤلات في ذهنه‏.‏هل كان العدوان ليمر بهذه السهوله لو كانت ثقافه جيله القديم سائده ؟ وهل كان موقف اولي الامر منا ليكون بهذه الصوره لو كان الشارع العربي بنفس قوه الاحساس والنبض الرافض؟وهل انتهي عصر الايديولوجيات حقا كما يقول فوكوياما ام هي سيطره الايديولوجيه والثقافه الواحده؟وهل ما كنا نتمسك به من احلام قوميه لم يعد صالحا لعصرنا هذا؟ ام انه لم يكن صالحا في اي يوم من الايام او لو كان صالحا لماذا لم يستمر؟ان التساؤل الحقيقي بعد كل هذه التاملات هو من الذي يدمر بغداد حقيقه الامريكان ام صدام ام نحن قاطني الشارع العربي رقم‏(‏ صفر‏).‏تعب من التفكير والسير وشده الحنين الي قبره فلملم اطراف اكفانه وحث المسير الي مقبرته لينام وهو موقن انه طيله تجواله في المدينه لم يغادر حقيقه لا المقبره ولا الموتي‏..‏انتهي اليوم الاول من قصف بغداد‏.‏

نشرت في الأهرام اليومية
‏1998 ديسمبر 21