Friday, September 08, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -3

و تداع خامس يمكن رصده بشكل واضح متمثلا في اختفاء حدة الألوان التي كانت سائدة عشية اندلاع المعارك فكثير من المراهنات و الانحيازات الواضحة توقفت مع دخول المعارك يومها التاسع بسبب الرفض الأمريكي المتعنت لوقف إطلاق النار مما أحرج كثيرا من الأنظمة في المنطقة الذين راهنوا بانحيازهم الكامل إلى الموقف الأمريكي الإسرائيلي على كسر شوكة المقاومة اللبنانية تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو ضرب الامتداد الإيراني في المنطقة. و مع زيادة حدة المعارك و سقوط المزيد من القتلى المدنيين دخلت كثير من المواقف الرسمية العربية في حالة من انعدام الوزن و فقدان الاتجاه و بدا واضحا و للمرة الأولى حتى لأكثر الأنظمة العربية صداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تقف موقفا محايدا أو ما يسمى الوسيط النزيه في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت حالة الأنظمة العربية مثل المعلقة في الهواء لا هي متجذرة في شوارعها و لا هي قادرة على التبني الواضح و الصريح للموقف العدائي الأمريكي السافر. خلاصة القول أن الإدعاءالرسمي العربي بأن أمريكا يمكنها أن تكون وسيطا نزيها في حل النزاع قد انتهت إلى غير رجعة بسبب معارك الثلاث و ثلاثين يوما.

و لعل هذا التداعي يقود مباشرة إلى تداع أكثر عمقا و يتجسد في المعضلة التي تجد الأنظمة العربية نفسها فيها اليوم، فهي الآن بين شقي الرحى. فانتصار حزب الله كنموذج لتيار إسلامي مقاوم يتصف بالعصرية و الوطنية في آن واحد يخيف الأنظمة العربية ليس فقط من انتشار نفوذه و مريديه داخل الشوارع العربية و لكنه قد يشكل نموذجا يحتذى لكثير من الشباب العرب خصوصا في ظل خواء الأنظمة و عدم وجود قوى سياسية أخرى لها من المصداقية و الإقناع ما يجعلها منافسا محتملا في النفوذ و التأثير لنموذج حزب الله. و في الطرف الآخر فإن اتخاذ موقف عدائي معلن من حزب الله قد يصنف هذه الأنظمة كما كان الحال في بداية الحرب بأنها تقف مع الولايات المتحدة و إسرائيل في خندق واحد في مواجهة قوى المقاومة الوطنية الأمر الذي سيزيد من اتساع الهوة بين هذه الأنظمة و شعوبها و بالتالي يدفع بأزمة شرعية تواجدها إلى آفاق أبعد.

و تأسيسا على هذا التحليل بالذات يمكننا قراءة و فهم المحاولات العربية الرسمية محاصرة التأثير السياسي المحتمل لحزب الله بعد الحرب و ذلك باتباع خطين متلازمين يشكلا في التقائهما سورا عاليا تحاول من خلاله الأنظمة تحجيم الدور المستقبلي لحزب الله و عزله عن أي تأثير محتمل في الشارع العربي. الخط الأول هو الادعاء علانية بأن حزب الله يمثل اليد الطولى لإيران و بالتالي فإن الوقوف ضده هو وقوف ضد الأطماع الفارسية في المنطقة و تحجيم للنفوذ الشيعي الذي بدأ يشتد و ينتشر خصوصا في ضوء ما يحدث في العراق. و الخط الثاني هو محاولة ربط الدمار الهائل الذي تعرضت له البنية التحتية اللبنانية و الإقتصاد اللبناني و أعداد القتلى المدنيين بسبب وحيد يتمثل في أسر الجنديين الإسرائيلين و "التصرف غير المسؤول لحزب الله". الهدف الأبعد لهذين الإدعائين هو خندقة حزب الله و حصره في موقف المدافع و من ثم منعه من جني ثمار انتصاره و صموده و بالتالي منع تعاظم نفوذه في المنطقة العربية، و في حالة تحقق ذلك فإن حزب الله يخسر سياسيا ما كسبه في معارك الثلاث و ثلاثين يوما. و من هذا المنظور تحديدا لعلي أخالف السيد حسن نصر الله الرأي بأنه لو كان يعرف مسبقا حجم الرد الإسرائيلي ما كان ليقدم على عملية أسر الجنديين الإسرائيليين. إن مثل هذا المنطق يعطي المبرر و المصداقية للإدعاء الثاني الذي أشرنا إليه آنفا مما قد يدفع إلى ترسيخه و تأجيج حدته.

إن اسكتمال متطلبات النتائج السياسية لمعركة الثلاث و ثلاثين يوما تستدعي من المقاومة اللبنانية التأكيد على أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين كانت إجهاضا مبكرا للمخطط الإسرائيلي المعد مسبقا بإيعاز و تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية بتصفية حزب الله كما هو الحال مع حماس تحت ذريعة محاربة و تصفية بؤر "الإرهاب الإسلامي" في المنطقة. كما تستدعي النتائج السياسية للحرب أن يستثمر حزب الله قواعد شرعيته الشعبية التي تأسست في كل الشوارع العربية و ألا ينجر إلى موقف دفاعي يحاول من خلاله نفي الإدعائين السابقين.

و لعله تلوح في الأفق البعيد بوادر إرهاصات أولية لتحالفات قد تتغير في المنطقة في حالة واصلت المقاومة صمودها في العراق و لبنان و فلسطين. قد تتهاوى أنظمة و قد تتغير أوراق اللعب، كانت المصلحة الأمريكية طيلة التاريخ الأمريكي و لا زالت هي المحرك الأول للسياسة الخارجية الأمريكية و لو تبدى صانع السياسة الأمريكي و اتضح أن من يحركون الأحداث و يؤثرون في حركة الشارع العربي في هذه المنطقة من العالم هو غير حلفاء و أصدقاء الأمس فلن تتورع إدارة البيت الأبيض أيا كان نوعها في محاولة مد جسور التعارف أولا ثم الصداقة لاحقا مع من يملكون القدرة على التأثير في صنع مستقبل المنطقة سياسة و اقتصادا. و قد يبدو هذا التداعي غريبا و يخالف المنطق الأيديولوجي لدى الكثيرين، إلا أن استقراء السياسة الخارجية الأمريكية منذ مبدأ مونرو و حتى الآن تدعم جنون قراءة هذه الإرهاصات.

2 comments:

Anonymous said...

الأستاذ الدكتور محمود جبريل أدامكم الله ووفقكم وسدد خطاكم
لا أستطيع في ظرف كالذي تمر فيه المنطقة العربية والفكر العربي وفئة المثقفين العرب إلا أن أشد على أياديكم لهذه التحليلات العميقة والجادة والحريصة على الوعي الفكري لجيل الأمة القادم. هذا التيار الذي تقفون أنتم وأخوانكم المثقفون الحريصون الواعون على ترسيخه في مواجهة هجمات وتكتلات تكاد تبعث -أو هي تحرص على ذلك- على إشاعة الضبابية والفوضى الفكرية والإرباك الذهني سعياً منها لتنفيذ ما رسمته أو ما رسم لها أن تقوم به.
لقد كانت لي رؤية بسيطة منذ أيار مايو عام 2000 ومنذ أن أنسحبت إسرائيل مضطرة من جنوب لبنان، هذه الرؤية البسيطة قائمة على أن اتجاه الحركة أو اتجاه الرسم البياني كما يقول الإحصائيون يدل بوضوح على أن اتجاه المقاومة العربية في تصاعد مراكماً تجاربه النضالية وراكماً التجارب العربية الرسمية في رد العدوان وتناسيها لأنها لم تجلب سوى الخيبات وعلى المستويات جميعها.
أما السهم الإسرائيلي في الرسم البياني أيضا فيشير إلى انحسار كبير وتساقط في الفكرة الصهيونية وتراجع كبير في المشروع الصهيوني الحالم في السيطرة على المنطقة العربية.
الإمر لا يحتاج إلة كثير من الحجج فالوقائع ماثلة للعيان من انتفاضة الإقصى في فلسطين إلى اليوم وفي جدار الفصل العنصري وفي حركة المقاومة العراقية وتجلت الوقائع في أوضح صورها في هذا الصمود البطولي غير المسبوق لمقاتلي حزب الله في مواجهة آلة عسكرية جبارة ومتغطرسة أعدت لكي تكون متفوقة على جيوش المنطقة العربية مجتمعة.
أقول وبكل فخر إنني تعلمت الكثير من قراءاتي لما كتبتم ولما قلتم في الجزيرة وكلي فخر أن أكون أحد تلاميذكم عن بعد وليس عيبا أن يكون المتتلمذ أكبر عمراً من أستاذه فالأرقام هنا لا قيمة لها وأعتز أن أكون تلميذا في مدرستكم الفكرية المتميزة
مرة أخرى كل رمضان وأنتم بخير وأمتنا بخير وعسى أن نشهد فيه ما شهده آباؤنا الأوائل في عهد النبوة وامتداداً إلى صلاح الدين وكل أبطال أمتنا الذي صنعوا أمجاداً للأمة في رمضان الانتصارات لا رمضان الخيام الرمضانية.
أبقاكم الله وسدد خطاكم
من: عواد أبو زينة

Mahmoud Gebril said...

الأخ عواد أبو زينة

سعدت جدا بكلماتك الطيبة و أتطلع بلهفة إلى الاطلاع على رؤياكم لمسار المقاومة البياني الذي تحدثتم عنه، فعن طريق هذا التفاعل الفكري يحدث تراكم النمو المعرفي فنحن جميعنا نتعلم و أتمنى ألا تأتي على أي منا لحظة ادعاء العلم و المعرفة

محمود