Wednesday, November 01, 2006

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الثالت

هل تنجح سياسة "البلدوزر" الأميركي؟
ورقة ثالثة: قراءة مختلفة لأمريكا
يمكن القول أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر- رغم جانبها المأساوي الإنساني- مثلت فرصة نادرة للولايات المتحدة الأميركية- لتعيد صياغة أجندة مجريات السياسة الدولية والعلاقات بين الأمم طبقاً لإطار يحقق مصالحها بشكل غير مسبوق في تاريخها منذ استقلالها.. ولعلي أدعى أن الذي خلق هذه الفرصة السانحة النادرة ليس تفجيرات مركز التجارة العالمي، وإنما حقيقة ردود الفعل العالمية بكل مستوياتها.
فتفجيرات سبتمبر، أحدثت ترويعاً وخوفاً وانكساراً للهيبة الأميركية وقتلاً جماعياً لم تشهده في تاريخها، كما أحدثت ارتباكاً وتخبطاً وفزعاً على مستوى متخذي القرار الأميركي.. إلا أن ردود الفعل العالمية، دولاً ومنظمات أعادت للولايات المتحدة الأميركية ثقتها بنفسها وأعادت لها توازنها النفسي وإدراكها لذاتها. بأنها القوة الأعظم بدليل انصياع الجميع لها دولاً ومنظمات من شمال العالم وجنوبه وشرقه وغربه، وبالتالي لابد أن تكون استجابتها منسجمة مع رؤية العالم لها من ناحية، وموازية للشرخ النفسي الكبير الذي أحدثته هذه التفجيرات في نفسية المواطن الأميركي ووعيه من ناحية أخرى.
إلا أن الأمر الأكثر أهمية، أن صانعي السياسة الخارجية الأميركية رأوا- على صواب- في انصياع العالم لهم- خوفاً أو طمعاً- فرصة حقيقية لإعادة ترتيب أوضاع العلاقات بين الأمم والشعوب. بشكل يخدم أهداف أميركا الإستراتيجية لحقب قادمة:
فتحت مسمى مكافحة الإرهاب متى كان وأين كان يمكن فتح كثير من الملفات القديمة وتسويتها بشكل نهائي. فكثير من الدول والمنظمات التي أتهمت بالإرهاب في يوم من الأيام. عليها اما الانصياع بالشكل المطلوب كما تراه أميركا، وإلا عليها تحمل النتائج الوخيمة.. وبالتالي سيقوم البلدوزر الأميركي، باجتياح أراض كثيرة مدعوماً بشرعية دولية، قد تكون كاملة أحيانً ومنقوصة في أحيان أخرى، حسب نوعية الأرض التي يتم اجتياحها أو قصفها ونوعية التبريرات والدعاوي المستخدمة كذريعة لذلك. أصوات كثيرة طالما علت. من دول ومنظمات وأفراد. رافضة السياسات الأميركية مناهضة لها قولاً وفعلاً ستخبو وتتحول إلى الهمس أو الصمت المطلق تتساوى في ذلك صيحات حق تقرير المصير أو مناهضة العولمة، فالكل سيخشى الاتهام بالإرهاب، والصمت بدوره سيساعد كثيراً على تمادي أميركا في "سياسة البلدوزر" الكاسحة لكل النتوءات غير المرغوبة، وبالتالي ستتدفق القوات الأميركية والعتاد الأميركي إلى مناطق كثيرة من العالم تعقباً لبؤر الإرهاب وقواعده. وإن كنت أعتقد أن هذا التدفق سيتركز في مناطق دون غيرها. خدمة لرؤي إستراتيجية حيوية لمصالح أميركا في الربع قرن القادم..
أولها: منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا- ولعل بدايات هذا التمركز العسكري بدأت منذ فكرة جيمي كارتر بإنشاء "قوة التدخل السريع"، وأصبحت أكثر وضوحاً إبان حرب الخليج، بدعوى الحفاظ على بترول الخليج والدفاع عن أصدقاء أميركا ضد التهديد السوفياتي تارة، ثم الإيراني ثم العراقي تارة أخرى.. إلا أن التهديد الكامن على الأمد الطويل كان ولا يزال شبح أوروبا الموحدة كمنافس حقيقي وعدو محتمل " للولايات المتحدة في مستقبل الأيام. وبالتالي فالوجود الأميركي في هذه المنطقة الحساسة من العالم، هو احتواء مبكر لأوروبا الموحدة وما قد تحمله من تهديد لأميركا ومصالحها.
وثانيها: منطقة وسط أسيا والنمو المتصاعد للصين كدولة عظمى قد تحل قريباً محل الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى تنامي قوى نووية أخرى مثل الهند وباكستان. وبالتالي فالبناء العسكري الأميركي في هذه المنطقة تحت مسمى مطاردة الإرهاب وفلوله. يخدم أهدافاً إستراتيجية واضحة.
بناء على ما سبق. يمكن الدفع بقوة، بأن محاربة الإرهاب ستستخدم كذريعة مشروعة من الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق مآرب وأهداف مختلفة لا علاقة للإرهاب بها. فاستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية سيستمر ما دامت التيارات السياسية المتطرفة "يمينية- أو "يسارية" تمنع من الوجود والمشاركة المشروعة من خلال قنوات المشاركة السياسية المتاحة في أي نظام من الأنظمة لا علاقة لذلك بإسلام أو مسيحية أو يهودية، فاليمين- على سبيل المثال- في حالة صعود ومد في دول كثيرة من العالم، والتيارات اليمينية المتطرفة تفعل فعلها، العنيف – الإرهابي- في الولايات المتحدة "أحداث أوكلاهوما" وفي إسرائيل "اغتيال إسحاق رابين، وفي مصر "أحداث الأقصر، وغيرها من الدول.
وبالتالي ستستمر هذه التيارات في الوجود ما دامت ممنوعة من الوجود السياسي والتعبير السياسي المشروع. أياً كانت أسباب هذا المنع، وان كانت أسباب المنع أكثر عمقاًُ وأهمية من ذريعة الحفاظ على الشكل الديمقراطي للعبة السياسية ، بدليل منع التيار الإسلامي من تسلم السلطة في الجزائر، رغم مشاركته المشروعة طبقاً للقواعد الديمقراطية للنظام الحاكم .. وفي المقابل أيضاً منع سيلفادور الليندي في تشيلي 1973 من السلطة رغم المشاركة المشروعة طبقاً للقواعد الديمقراطية المعمول بها، فأسباب منع التيارات الموصوفة بـ"التطرف" أكثر عمقاً من المزاعم المطروحة- إلا انه أياً كانت الأسباب فإنها تؤدي بها إلى استخدام العنف كوسيلة للتعبير عن ذاتها.
فإذا كانت أميركا تهدف إلى محاربة الإرهاب حقاً لكانت جهودها منصبة على مزيد من الديمقراطية في الأنظمة العربية والإسلامية التي تتهمها بأنها مصدر الإرهاب .. وكأن للإرهاب هوية وديناً. ولكانت مدت يد المساعدة الاقتصادية لتمكين هذه الدول من إحداث تنمية حقيقية تساهم في القضاء على الفقر والجوع والبطالة وتحسين فرص الحياة .. تلك هي المحاربة الحقيقية للإرهاب .. أما بغير ذلك فالإرهاب مستمر ما استمرت أسبابه.
ب- ومصطلح "محاربة الإرهاب" أيضاًَ أعاد للسياسة الخارجية الأمريكية إطارها المرجعي الذي افتقدته منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وبالتالي أعاد لهذه السياسة "المبرر" و"المسار" و"الهدف".
فمحاربة النفوذ السوفيتي والمد الشيوعي" كان إطاراً مرجعياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استخدم كمبرر للتحرك الأميركي في بقاع مختلفة من العالم، وصنفت بموجبه دول العالم "مع" أو "ضد" الولايات المتحدة، من منطلق أين تقف هذه الدول في سياساتها مع الاتحاد السوفيتي، إلا أن سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي أوجد حالة من الإفلاس الفكري السياسي لدى صناع السياسة الخارجية الأمريكية، الذين لم يتعودوا رؤية دول العالم الثالث وشعوبه بمعزل عن الاتحاد السوفيتي ... ودخلت السياسة الخارجية مرحلة تخبط ومتاهة على مستوى التأصيل النظري إلى أن وجدت ضالتها في "الإرهاب" منذ الحادي عشر من سبتمبر. فعاد صناع السياسة الخارجية الأمريكية يقسمون العالم – كما كانوا يفعلون أيام الاتحاد السوفيتي – إلى معسكرين: معسكر ضد الإرهاب ومعسكر يدعمه ويؤويه. ومن ليس معنا فهو ضدنا، ولم يعد هناك ألوان رمادية في قاموس السيد بوش ومجموعة Think Thank المحيطة به، وعاد الغطاء الأخلاقي مرة أخرى- تماماً مثل أيام الاتحاد السوفيتي- للخطاب السياسي والإعلامي الأميركي ممثلاً في قوى "الخير" التي تحارب قوى "الشر" قوى "الشيطان". من هذا المنطلق سيكتشف الكثيرون في دول العالم الثالث "أنظمة ومنظمات" أنهم من قوى "الشر" وحلفاء "الشيطان" بسبب مناداتهم بحق تقرير المصير أو حتى بحقهم في حياة أفضل.
ج- إن صحة التحليل في البندين السابقين. قد يؤدي إلى تداعيات مستقبلية من أهمها:
§ فرض كثير من التسويات للمشكلات والصراعات الإقليمية المعقدة- بما يتراءي لصناع السياسة الخارجية الأمريكية ويتفق مع مصالحها .. وفي مقدمة هذه الصراعات يأتي الصراع العربي الإسرائيلي الذي سيسوى في ضوء معطيات غير مواتية لحل يضمن الحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني فسياسة الحديد والنار والشارونية، والمباركة الأمريكية وغياب أي دور عربي فاعل وإخماد التيارات الإسلامية المقاومة للإحتلال، لابد وأن يترك سلطة فلسطينية ضعيفة ومحاصرة لا خيار لها إلا خيار التوقيع على تسوية أساسها التصور الأميركي- الإسرائيلي لإنهاء الصراع.
إن أي مناهضة أو رفض لهذا التصور أو إصرار على مواصلة مقاومة الاحتلال، سيضع أصحابه في خانة الشيطان وقوى الشر، الذين لم يعد لهم مكان في خارطة الولايات المتحدة الأميركية الجديدة لهذا الكون.
§ تزايد الإحساس بالظلم- كرد فعل لسياسة البلدوزر الأمريكية- لدى كثير من الشعوب وبالذات في الدول العربية والإسلامية، وتفجر كثير من الصراعات الطائفية والدينية داخل بعض الدول التي تحتوى تركيباتها السكانية على أقليات دينية .. ولعل بعض الدول في افر يقيا وآسيا ستكون المرشح الطبيعي الأول لمثل هذه الصراعات.
§ التوجيه التدريجي لكثير من الدول في عالمنا الثالث نحو الصين أولاً ثم نحو أوروبا ثانيا لعقد اتفاقات استراتيجية تذكرنا باتفاقات التعاون العسكري مع الاتحاد السوفيتي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي يدفع العالم- في حالة تحقق ذلك- إلى ظاهرة الاستقطاب الدولي مرة أخرى.
§ تخصيص مزيد من الموارد والأموال للأبحاث والتطوير في المجالات العسكرية في أميركا وبعض الدول الأوروبية كنتيجة طبيعية لتقييم أداء كثير من الأسلحة على الأراضي الأفغانية، وفي أراض أخرى، وهو ما سيلقي بأعباء متزايدة على الميزانية الأمريكية والاقتصاد الأميركي في السنوات القادمة، كما ستظهر مفاهيم جديدة للأمن والأساليب والأدوات التكنولوجية اللازمة لتحقيقه داخل الدول الصناعية حفاظاً على منشآتها الحيوية، وسلامة مواطنيها.
§ تسارع وتيرة العولمة بجوانبها المختلفة. وإن كان البعدان السياسي والعسكري سيكتسبان أهمية متزايدة، على حساب الجوانب الاقتصادية والمالية التي كانت تشكل الجوانب الأكثر أهمية في ظاهرة العولمة بينا ستشهد الجوانب الثقافية للعولمة ارتداداِ واضحاً كرد فعل منطقي لكثير من الشعوب التي سيدفعها القهر والظلم والتمييز وإجراءات السفر، وسياسات الهجرة وتأشيرات الدخول إلى الرجوع إلى تراثها والاعتداد بأصولها الثقافية وتاريخها.
§ تكريس فشل النظام الليبرالي – نظرياً وعملياً- في التعامل مع الأزمات الخارجية والداخلية الكبرى ففي أثناء الأزمات، مثلما حدث إبان الحادي عشر من سبتمبر وكما هي الحال تماماً إبان الفترة المكارثية في الخمسينات من القرن الماضي، تلجا أميركا إلى أدوات ووسائل قمعية، وتصدر القوانين والإجراءات الاستثنائية المناقضة لطبيعة ومحتوى النظام الليبرالي لتتعامل مع أزماتها ضاربة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية عرض الحائط.
§ إن هذا الفشل المتكرر يفرض تساؤلات جوهرية حول مصداقية النظام الليبرالي – كنظرية ونظام- يدعي تناقضه وعداءه المطلق للنظم الشمولية والدكتاتورية في العالم.
§ فقدان منظمة الأمم المتحدة لما تبقى لها من هيبة وشرعية وجود، ذلك أن كثيراً من الترتيبات والتحركات الأمريكية التي ستحدث في بقاع كثيرة من الأرض ستكون متعارضة مع ميثاقها,, ولا يستبعد والحال هذه ، أن تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى إنشاء كيان تنظيمي دولي جديد يكون أكثر انسجاماً مع عالمنا الذي بدأت في تكوينه بعد الحادي عشر من سبتمبر الماضي.
§ ظهور بوادر خلافات وانشقاق داخل التحالف الغربي المؤيد للولايات المتحدة الأمريكية في سياستها ضد الإرهاب- وبالذات عندما تبدأ الأقدام الأمريكية في اجتياح أراض. ليس هناك اتفاق مسبق. أنها كانت مهدا للإرهاب أو مصدراً له .. إلا أن هذه الخلافات لن تكون بالخطورة التي تدفع ببعض دول التحالف الغربي إلي تعريض مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية للخطر.
§ تأسيسا على كل ما سبق يمكن القول انه تلوح في الأفق فرصة حقيقية أساسها أولاً عدم قبول الآخر لنا رغم تفاوت سياساتنا وتوجهاتنا نحوه.
§ وأساسها ثانياً: تحول كثير من الأجواء والبيئات في أمبركا وأوربا إلى أجواء وبيئات طاردة- في الأمد القصير على الأقل- لنا ولاستثماراتنا، وأساسها ثالثاً: الاستخفاف وعدم الالتفات الى كثير من مطالبنا المشروعة وحقوقنا ولو في حدها الأدنى.
§ ومن ثم قد تكون الفرصة مهيأة أكثر من أي وقت مضى لبدء الكلمات الأولى في حوار عربي – عربي جاد اعتقد أنه لدى المثقفين والمفكرين العرب بمختلف انتماءاتهم الكثير للإسهام به لتحديد شكله ومضمونه ومساره ,. فمن يدري لعل الحادي عشر من سبتمبر يمثل فرصة لنا كعرب لبدء عقد جديد، كما مثل فرصة لأميركا تحاول من خلالها خلق عالم جديد لن يكون لنا وجود فاعل فيه، إلا إذا أمكننا تحقيق وجودنا الفاعل داخل أوطاننا أولاً، فتلك هي البداية الحقة للحفاظ على أوطاننا هذه على خارطة الكون الجديد.

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الثاني

مزاد علني تباع فيه دماء البشر بأبخس الأثمان
لم تكن منظماتنا الأهلية المدافعة عن حقوق الإنسان بأفضل حالاً من أنظمتها تجاه الحدث، فلم تصدر البيانات الرنانة الطنانة المعهودة. رغم أن حقوق الإنسان العربي انتهكت أسوأ انتهاك، سواء من الأنظمة العربية إرضاء للولايات المتحدة الأميركية، أو بواسطة الدول الأوروبية وأميركا ذاتها التي استثنت من القوانين ما استثنت وألغت منها ما ألغت مخالفة بذلك أبسط حقوق الإنسان، لتضع المئات من العرب والمسلمين في سجونها دون أي سند قانوني أو شرعي يبرر ذلك.
وفي وسط هذا المزاد العلني العام، حيث تباع دماء البشر بأبخس الأثمان كان موقف المتثوقفين العرب منسجماً مع ثقافة رد الفعل والصدى، ومتفقاً في مجمله مع موقف أغلب الأنظمة العربية، حيث أنجرف كثير من المتثوقفين في الحديث عن الإرهاب إدانة أو تحليلاً. دون أن نكلف أنفسنا عناء السؤال لماذا الحديث عن الإرهاب الآن ولماذا تراجع الحديث عن أولوياتنا الحقيقية التي أسهم عدم تحقيقها بشكل مباشر وأكيد في بروز ظاهرة اللجوء إلى العنف. كأداة لتحقيق أهداف سياسية، هل يكفي كون الإرهاب أصبح أولوية أولى في سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية ليكون أيضاً أولوية مطلقة في سلم أولوياتنا؟
ولعله يمكنني إجمالا رصد اتجاهين عامين في تناول المتثوقفين العرب لإحداث سبتمبر وتداعياتها:
· اتجاه أول: ركز كتاباته وأحاديثه الصحفية والإعلامية على ما يسمى "تحسين صورة الإسلام أمام العالم والتصدي لمحاولات تشويه العرب والإسلام والمسلمين واتهامهم بالإرهاب.. وبالتالي كان محور جهود التحسين هذه هجوماً ضارياً على بن لادن وما يمثله، وتبرئة الإسلام والعرب منه ومن أتباعه والتركيز على أن الإسلام دين سلام وتسامح وتعايش بين الشعوب.
وتأسيساً على هذا امتلأت الصحف والمجلات بالمقالات العديدة لكثير من الكتاب والمفكرين والصحفيين من جميع الاتجاهات، وخصصت كثير من الفضائيات العربية الحلقات تلو الحلقات مستضيفة كبار الشخصيات الدينية والصحفية، لنقد مزاعم بن لادن ومن معه وأن الإسلام والعرب بريئون منه ومن أفعاله.. وفي رأيي أن مواقف المتثوقفين هذا قدم المبرر النظري والأخلاقي لما تفعله أميركا وحلفاؤها وكثير من الأنظمة العربية تجاه بن لادن وأنصاره، وما يسمى بالتيار الإسلامي الأصولي بصفة عامة، وبالتالي أعطى وبشكل غير مباشر وغير مقصود مصداقية كاملة لدعاوي الرئيس بوش، بأن حملته العسكرية هي حملة "الخير ضد لشر" .. إن موقف النخبة المثقفة كان يمكن أن يكون أكثر عمقاً وأكثر وعياً وفهما لما حدث ولماذا حدث فالتأمل الواعي يمكن أن يعطي قراءة مختلفة تماماً لما رددته الأنظمة العربية وما ردده المتثوقفون .
أ‌- فأسامة بن لادن هو نتاج عربي خالص، ولا يمكننا التنصل من مسؤولياتنا عن ظهوره.. أسامه بن لادن وما يمثله هو نتاج لعدم وجود أي مشروع نهوضي عربي تطرحه الأنظمة، أو الأحزاب السياسية العربية بمختلف تياراتها أو حتى المثقفون العرب كأفراد يحقق التفافاً عربياً حوله، وبفرز معايير واضحة لشرعية الحركة السياسية. أسامه بن لادن كان لابد أن يظهر وسيظهر آخرون بعده، ما دامت مشروعات البناء الديمقراطي في بلادنا العربية مرهونة في أشكالها وهياكلها ومضامينها بإرادة الحاكم يمنعها أو يمنحها كيفما شاء ومتى شاء ولمن شاء.. لابد أن يكون حق المشاركة السياسية المشروعة مكفولاً للجميع من أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وأفكارهم، إذا كان لنا أن نمنع ظهور أسامه بن لادن أخر، وأن نمنع استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
ب‌- وأسامة بن لادن وما يمثله، هو أيضاً نتاج لحالة اقتصادية عربية متردية "ليس هنا مجال الخوض في أسبابها، أفرزت مزيداً من الفقر والبطالة والجوع، والأهم من كل ذلك حالة من اليأس والقنوط دفعت بالكثيرين وستدفع بأكثر منهم إلى مواقف وتيارات صداميه مع أطر السياسة والاقتصاد الرسمية.
جـ- وأسامه بن لادن وما يمثله هو أيضاً نتاج لثقافة قشرية، شكلتها مؤسسات تنشئة عاجزة عن الفعل أو التفاعل مع معطيات عصر جوهره التغير اللحظي والمعرفة المركبة، وبالتالي لابد أن يفرز هذا الواقع الكثيرين من شاكلة بن لادن كتعبير عملي عنيف عن حالة العجز العام والإحباط المتأصل فينا.
فنحن حقيقة في حاجة إلى تحسين صورتنا أمام أنفسنا أولا، وليس أما الآخرين- فالآخرون يشكلون صورتهم عنا من خلال واقع عربي حضاري "سياسي" ثقافي- اقتصادي، اجتماعي، تقني، يرونه أمام أعينهم، وليس من خلال خطابات إعلامية تبث من خلال قنوات فضائية، وباللغة العربية أو من خلال مقالات مكتوبة في جرائدنا العربية، بل لعلى لا أبالغ إذا قلت أن ما نفعله هنا، هو تأكيد عملي أيضاً لصورتهم عنا.
إن الدعوة الآن أصبحت أكثر إلحاحاً وأكثر جرأة، للبحث في روافد ثقافتنا وعلى رأسها التراث، لتحرير العقل العربي من قيوده ولنطلق لقيم الإبداع والخلق والتفكير الحفري، فرص تشكيل مناهجنا في المدارس، وأسس التربية في بيوتنا ومضمون خطب مساجدنا، ونبراس إعلامنا بأجهزته المختلفة.. ذلك هو الطريق الأصيل لخلق عقل جمعي فاعل للأمة يستطيع ليس فقط تحسين صورتها أمام الآخرين، ولكنه وبكل تأكيد، يستطيع لعب دور فاعل ومؤثر في مسيرة الحضارة البشرية، وإلى أن يحدث ذلك يمكننا فقط تشييد عدة تماثيل لابن رشد في أسبانيا، التي يؤمها أكثر من 70 مليون سائح من كافة أقطار الأرض.. فتلك التماثيل ستكون أكثر تعبيراً ومصداقية عن حضارة سادت.. أما نحن وبواقعنا الحضاري الحالي، فإننا نفتقد مصداقية الحديث والإقناع.
وبالتالي قد نكون في حاجة إلى موقف ثقافي أكثر أصالة. يعترف أولاً أن أسامة بن لادن- رغم كل اختلافاتنا وتناقضاتنا الفكرية مع ما يمثله، والتي قد تصل حد التناقض المطلق- أكثر اتساقا مع ذاته منا، فنحن- المتثوقفون- نقول ما لا نفعل، نرفض السلطان ونلعنه ونأكل على موائده، ونلعن أميركا وسياساتها ونفكر ونأكل ونلبس ونتحاور ونعيش ونموت بطريقتها، ولعل ذلك ما يفسر هذا الإعجاب الخفي الخجول، بابن لادن وتمنياتنا الخفية الخجولة ألا تمسك به أميركا من ناحية، ورفضنا المعلن وإدانتنا لما فعله من ناحية أخرى.
ليسأل كل منا نفسه.. لماذا أعجبت الغالبية من جماهيرنا العربية وأظهرت فرحها بأشكال عديدة من السلوك واللفظ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر- في لحظاتها الأولى على الأقل، وهل حقيقة المتثوقفون العرب هم ضمير الأمة والمعبرون عن أحلامها.
· واتجاه ثان: تصدي بفكره وكتاباته- ومن منظور ثقافة رد الفعل أيضاً- ليرد ويفند ادعاءات صموئيل ها ننجتون حول "صدام الحضارات" مؤكدين على مقولات مثل "حوار الحضارات" وتواصل الحضارات" ...الخ ولعل هذا الاهتمام الجارف بكتاب وكتابات ها ننجتون. يعد في حد ذاته مؤشراً واضحاً على نوع وعمق المسألة أو المسائل لمصيرية التي تشغل بال المتثوقف العربي اليوم.
فصموئيل مانتنفتون أستاذ أميركي جامعي وكاتب يميني، كان ومازال مهتماً ومنذ منتصف الستينيات بقضية تحقيق "الاستقرار Order" في دول العالم الثالث بأي شكل وبأي ثمن، وبالتالي كان أكثر المؤيدين للنظم العسكرية في هذه الدول، باعتبارها أكثر قدرة على تحقيق النظام والاستقرار ولو بالقوة، واستمرت كتاباته على هذا المنوال من 1968 حين أصدر كتابه Poitical Order in Changing Societies داعياً لتحقيق الأمن والاستقرار وضرب كل عوامل عدم الاستقرار والتطرف التي تهدد انتشار الحضارة الغربية في دول العالم الثالث.
تأسيساً على هذا التوجه الأصيل، فإن ها ننجتون يرى في بعض التيارات الإسلامية الأصولية، خطراً ليس على الحضارة الغربية ولكن على فرص انتشارها في دول العالم الثالث.
ورغم ما في هذا الإدعاء من مغالطات، ذلك أن الأنظمة العربية والإسلامية ذاتها، تضرب بيد من حديد على هذه التيارات، التي ترى فيها تهديداً لاستقرارها وأمنها كما يراه ها ننجتون تماماً، وبالتالي لن تشكل هذه التيارات لا صداماً ولا حوارا ولا عناقاً لأي حضارة من الحضارات، فهي محاصرة محصورة، حتى وإن اختارت الشكل الديمقراطي الشرعي لتعبر عن وجودها ويكفي تجربة الجزائر مثالاً صارخاً على ذلك. إلا أن المتثوقفين العرب إنبروا خفافاً وثقالاً، لإثبات أن الحضارة العربية الإسلامية، لن تهدد الحضارة الغربية وأن العلاقة بين الحضارات هي علاقة حوار وتواصل.. وكأننا صدقنا أنفسنا فعلاً، أن واقعنا الراهن يمكنه أن يشكل حضارة أو شيئاً من حضارة، فما بالك بتهديده للحضارة الغربية المشكلة لشكل ومضمون وأسلوب حياة البشر اليوم.
لقد جهلنا أو تجاهلنا أبسط أبجديات صراع الحضارات، المتبلور حول نظرية توازن القوى، التي حكمت وما زالت تاريخ صراع حضارات بني البشر.. وبالتالي ليتنا نشغل أنفسنا أولاً مثقفين ومتثوقفين وأصحاب قلم وفكر، بأسئلة أشد إلحاحاً، وأكثر ارتباطاً بمستقبل الأمة، وكيف سيكون لو استمرت الأمور على ما هي عليه الآن، وأن تنصب أغلب جهودنا في اتجاه إعداد الطفل العربي وإمداده بأدوات وأساليب تعلم واكتساب معرفة، مختلفة تماماً عن الأدوات والأساليب التي أنتجت ثقافتنا وفكرنا السائد.. ذلك هو مدخل الإنشاء الحضاري الجديد، فقبل الحديث عن صدام الحضارة أو حوارها وتواصلها مع حضارات أخرى علينا أن نبدأ في إنشائها أولاً، ثم ليفعل الله بها ما يشاء
.

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الأول

متى يكون للعرب أجندة مستقلة؟
كعادتها دائماً حين اندلاع الحروب أو أحداث العنف والأزمات، انطلقت الغربان إلى الفضاء في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، محلقة في انتظار الدم والجثث والأشلاء لتبدأ ممارسة مهامها بعد أن تنفض المعارك ويتوقف الرصاص، لتنهش الجثث وتقتات وتأكل، فالغربان لا تشارك في المعارك أبداً، فهي بعيدة عنها ولكنها تستطيع وبكل اقتدار أن تروي ما حدث، وكيف حدث، وأن تحلل أيضاً أسباب الحدوث.
ذلك وللأسف ما آل إليه وضع المتثوقفين العرب، أبطال ما بعد الحدث، لا اختلاف في ذلك بين يسارهم ويمينهم.
فمنذ الحادي عشر من سبتمبر شحذت الأقلام للكتابة، وجهزت الملابس وربطات العنق الأنيقة استعداد للندوات وكاميرات الفضائيات العربية.. وبدأ فرساننا نضالهم منذ ذلك التاريخ، واشتد تحليلهم شراسة بعد بدء الولايات المتحدة وحلفائها تدمير أفغانستان وشعبها تحت ذريعة محاربة الإرهاب والبحث عن بن لادن وأنصاره، ومن مفارقات القدر! المحزنة المضحكة، فقد تحالف المتثوقفون العرب مع أنظمتهم العربية في خندق واحد مع الولايات المتحدة وحلفائها في حرب "مقدسة" ضد بن لادن ومجموعته ومجمل التيارات الإسلامية الأصولية أينما كانت، فتلك حرب ضد الإرهاب وشروره!! توحدت الجهود وإن اختلفت المقاصد والنوايا.. وتلك قصة أخرى نرويها في ورقات ثلاث:
ورقة أولى توافق المصالح
ورقة أولى: زواج توافق المصالح Marriage of Convenience اختلفت الآراء وتعددت حول أسباب الدعم الكبير الذي قدمته أغلب الأنظمة العربية في الخفاء والعلن للحملة الأميركية العالمية ضد ما أسمته بـ "الإرهاب" فهناك من يرى أن الخوف من البطش الأميركي هو السبب وراء هذا الدعم، بينما يرى آخرون أن الطمع في الرضا السياسي والمساعدة الاقتصادية الأمريكية هو السبب. إلا أنني أدعي أنه قد يكون هناك سبب ثالث أصيل غير معلن وراء هذا الدعم.. حيث مثل الموقف الأمريكي والأوروبي المعادي للتيارات الإسلامية الأصولية بسبب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، فرصة لكثير من الأنظمة العربية لتصفية حسابات قديمة مع هذه التيارات، فقد اكتوت كثير من الأنظمة العربية بنيران هذه التيارات في بلادها.. وبالتالي فالوقت مناسب جداً، من وجهة نظر هذه الأنظمة، لضرب هذه التيارات وتصفية واعتقال أغلب عناصرها، فلا غرابة إذن أن نشاهد الاعتقالات والمحاكمات بالجملة لعناصر هذه التيارات في كثير من البلاد العربية.
وفتحت كثير من أجهزة الأمن العربية خزانتها ودواليبها وملفاتها للولايات المتحدة الأميركية لتغترف الأخيرة هذه كل ما تريده وما لا تريده من معلومات وبيانات عن أبناء الوطن، وهو ما لم تحصل عليه الولايات المتحدة الأميركية في كل تاريخها السابق على الحادي عشر من سبتمبر، رغم كل إمكاناتها التكنولوجية ووسائلها البوليسية، وكثرت في المقابل مطالبات بعض الأنظمة العربية، لكثير من البلاد الأوروبية لاسترداد بعض العناصر من جنسيات عربية عديدة فرت هاربة إلى بلاد الغرب خوفاً من البطش والتنكيل.. فالوقت مناسب للمطالبة، كما أنه أدعى للموافقة على تسليم هذه العناصر إلى أنظمتها العربية، فلم تعد تجدي مبررات حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية الغربية كمبرر للاحتفاظ بهذه العناصر الإرهابية، بل لعل التسليم ذاته يتم من منظور ديمقراطي وحفاظاً على سلامة الديمقراطية الغربية كما يدعون.
ولعلى أدعى- من منظور الواقعية السياسية- أن انتهاز الفرصة مشروع ومقبول. فكل الأنظمة تحافظ على أمنها واستقرارها وتضرب بيد من حديد- لو تطلب الأمر- كل المناوئين لها. إلا أن اختيار التوقيت لإتمام ذلك هو الذي قد يكون موضع تساؤل.
فورقة التيارات الإسلامية الأصولية، ومثال الجزائر بالذات، استعملت ولفترة طويلة بواسطة كثير من أنظمتنا العربية كورقة مساومة إما لعدم إعطاء مزيد من التنازلات مخافة أن تستغل ذلك التيارات الإسلامية، وإما كورقة ضغط للحصول على بعض المساعدات الاقتصادية، لأن الفقر والبطالة والجوع تستغل إيما استغلال بواسطة هذه التيارات لإحداث البلبلة وعدم الاستقرار السياسي، وبالتالي كان الأجدى بأنظمتنا، ومن منظور ميكافيللي بحت، أن تستغل ورقة التيارات الإسلامية الأصولية بطريقة أفضل ما دام ضرب هذه التيارات أصبح يمثل حاجة ملحة للولايات المتحدة الأميركية وللغرب.. أو أن تضربها في وقت أخر من اختيارها هي، وإن كنت أفضل ألا تضرب هذه التيارات وأن يحتفظ بها كورقة مساومة وضغط... فبعد أن تضرب كل هذه التيارات فبأي أوراق ضغط أخرى تساومون وأنتم لا تملكون من أدوات الضغط إلا قوة الرضوخ لها. إن النظر إلى مجموعة أهداف السياسة الخارجية كمنظومة متكاملة وشبكة مترابطة، انجاز إحداها يجب ألا يضر بانجاز بقية الأهداف، هو أمر أساسي وجوهري ولكنه مفتقد في مسار سياستنا الخارجية العربية تاريخاً وحاضراً، نحن أحوج ما نكون في هذه الفترة إلى تحديد أجندة سياستنا الخارجية وأهدافنا بمعزل واستقلالية تامة عن أجندة وأولويات الولايات المتحدة الأميركية.. الإرهاب ليس في قائمة أولوياتنا الآن، فأولوياتنا نحن كانت ومازالت تتمثل في مطالب الحرية، والتنمية الشاملة المستدامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتقرير المصير، أما الإرهاب فهو نتيجة لغياب تحقيق هذه المطالب، ونحن أحوج ما نكون أيضاً إلى أن نحدد ذلك بكل وضوح للعالم كله وفي هذه الفترة بالذات التي يتهمنا فيها الآخرون بأننا مصدر الإرهاب وأسبابه.
يجب ألا يذبح أبناؤنا قربانا لأميركا وحلفائها في هذه الفترة وإذا كان لبعض الأنظمة العربية أن تضرب بعض التيارات السياسية التي تشكل تهديداً لاستقرارها فلتختر وقتاً أخر لذلك.. لأن إتمام ذلك الآن لن يخدم مصالحها، بل لعله لن يقدر بالشكل الكافي في زحمة القتل العام الذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها، ولعل ذلك بالضبط ما حدا بإسرائيل لاستغلال الفرصة في محاولة للإجهاز على حماس والجهاد بل والسلطة الفلسطينية ذاتها.
تأسيساً على ما سبق، فإن الأجندة المستقلة هي الأساس للحديث عن أي تفاوض أو المطالبة بأية حقوق وبدونها فإن أبجديات العمل السياسي تكون قد أهدرت.
ورقة ثانية: المتثوقفون العرب.. وثقافة العجز
المثقفون، المفكرون، المتعلمون، أصحاب القلم، أيا كان المسمى، هم ضمير الأمة وقلبها النابض، ذلك ما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا، وهم المسئولون أيضاً عن صياغة الحلم الجمعي للأمة وحفز الجماهير وقيادتها لتحقيقه، وذلك أيضاً ما تقول به التنظيمات السياسية بأيديولوجياتها وانتماءاتها السياسية والمذهبية المختلفة.. ولعلي أبادر قولاً بأن الثقافة الحقة دور والتزام. ذلك أن المعرفة مسؤولية وأمانة للعب دور فاعل تجاه النفس والوطن. ومن هنا كانت "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون".. فتوحد الفكر بالحركة والقول بالفعل، هو الأمر الحاكم والجوهري بالنسبة للثقافة الحقة.. وتبعاً لذلك أيضاً يكون الفارق واضحاً بين الحديث عن التغيير وممارسة التغيير، وباستثناء الثقافة والفكر اللتين نشأتا في ظروف نضالية في تاريخنا المعاصر، لا أذكر أدوار فاعلة لمثقفينا وثقافتنا توحد فيها الفكر مع الممارسة، بل لعلي أدعي أن الهوة بين الأمرين ازدادت اتساعاً في نصف القرن الماضي من تاريخ هذه الأمة، ولعل لذلك أسباباً عديدة قد يكون من بينها بطش الأنظمة، وتجارب السجون، وعدم وجود امتداد جماهيري فاعل لكثير من الأفكار والتيارات المطروحة، قد يكون سببها الأمية أو لغة الخطاب أو أساليب التواصل، وبالتالي نشوء حالة من الإحباط واليأس، يتسع مداها وتتعمق حدتها كل يوم في محيط مثقفينا، حولت الكثيرين منهم إلى مهنة، الارتزاق الثقافي والفكري،.. وشتان بين بعدي الثقافة كدور ورسالة والثقافة كمهنة ووظيفة. هذه الأخيرة ثقافة قشرية لا عمق لها ولا جذور.. وعندما يمارس العمل الفكري والثقافي من منطلق الوظيفة والمهنة، فإنه يبتعد بشكل تلقائي عن اتخاذ المواقف الملتزمة والجادة من أمور الحياة والشأن العام ويصبح نشاط "النخبة المثقفة" ممارسة لإرادة التكيف ورد الفعل.
المحصلة الطبيعية لكل ذلك عجز الثقافة والفكر عن تقديم الحلول ومسارات الحركة تجاه المشكلات والأزمات التي تواجه الأمة. وذلك أسوأ أنواع العجز، الذي يحول تخلف الأمم والشعوب إلى حالة سرمدية تمارس خلالها وظيفة "الاستنساخ الحضاري" لما تنتجه الحضارات المتقدمة. ومن هنا شاء لي اختيار مصطلح "التثوقف" بدلاً من الثقافة لتعني إدعاء الثقافة وتوظيفها بما يتفق وأهواء ومصالح "المتثوقف" وتلك في رأيي أعلى مراتب الإفلاس الحضاري وعجز الشعوب عن الفعل والمشاركة الفاعلة في بناء مسيرة بني البشر.
ولعل أدعي أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت مثالاً صارخاً وانعكاساً واضحاً لثقافة، رد الفعل" هذه حيث تصدى كثير من المتثوقفين العرب لهذه الأحداث بالتحليل، كاشفين بذلك عمق ثقافة العجز وتجلياتها فالحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل في رأي ضربة قاسمة لمدرسة الواقعية السياسية التي سادت مجال العلاقات الدولية طيلة القرن الماضي، ويسجل في الوقت نفسه الأهمية الحيوية المتزايدة لمناهج علم النفس السياسي كمرجع في غاية الأهمية في تحليل أحداث السياسة الدولية.
ففي الحادي عشر من سبتمبر تعرضت الولايات المتحدة لضربة ساحقة، لم تتعرض لها في تاريخها السابق حتى في أقصى لحظات ضعفها وانكسارها، سواء في بيرل هاربر أو في فيتنام، سواء من حيث الخسائر البشرية أو من حيث الخسائر الاقتصادية، ناهيك عن تمريغ كبريائها وصورتها عن ذاتها في التراب.. إلا أنه في لحظات هذا الانكسار وهذه الخسارة حققت الولايات المتحدة الأميركية ما لم تحققه منذ ظهورها إلى الوجود كدولة في 1776، فقد حققت انصياعاً دولياً كاملاً وتسليماً دولياً مطلقاً بما تريده الولايات المتحدة وتسابقاً محموماً بين جميع دول العالم لإرضائها وتحقيق رغباتها.
وقع الضعفاء والفقراء، دولا ومنظمات وأفراد، ضحية لصورتهم عن ذاتهم، ككيانات ضعيفة مستضعفة، لا يمكنها الانتصار في معاركها، ولصورتهم عن الولايات المتحدة الدولة الأعظم غير القابلة للهزيمة والألم.. وبالتالي حققت أميركا في لحظات انكسارها وضعفها ما لم تحققه في كل سنوات جبروتها، وتراجع الضعفاء والفقراء وانصاعوا في لحظات قوة، ولم يقرأوا ما حدث ولم يستوعبوه، ولم يعطوا حتى أنفسهم الفرصة ليتدبروا أهم نتائجه: وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية جسم قابل للاشتعال وقابل للألم وقابل للانكسار، مثلها مثل بقية البشر.. رغم تحفظنا الإنساني والأخلاقي المطلق على قتل الأبرياء وترويعهم سواء قامت بذلك أميركا أو إسرائيل أو بن لادن، تأسيساً على ما سبق، كانت صورة الذات الدونية "السائدة لدينا أنظمة عربية ومنظمات ومتثوقفين أفراداً. هي العامل الجوهري المحرك للخطاب السياسي والإعلامي العربي بشكل عام تجاه الحدث.
تسابقت الأنظمة في الشجب والإدانة والتعاطف المعنوي والمادي والتفاخر بالتعاون الكامل في محاربة الإرهاب والإرهابيين، وانتهكت سيادات وزارات الداخلية العربية بشكل غير مسبوق لتفتح ملفاتها علناً أمام أجهزة الأمن الأميركية، في واقعة تعد الأولى من نوعها في تاريخ البشر، تحولت بموجبها الحكومات إلى جواسيس على أبنائها لصالح حكومات أخرى، فما حدث يتعدى بكثير ما يعرف بالتعاون الأمنى بين الدول ولا مسمى له إلا الانتهاك الأمني بدون مقابل.