Wednesday, November 01, 2006

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الأول

متى يكون للعرب أجندة مستقلة؟
كعادتها دائماً حين اندلاع الحروب أو أحداث العنف والأزمات، انطلقت الغربان إلى الفضاء في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، محلقة في انتظار الدم والجثث والأشلاء لتبدأ ممارسة مهامها بعد أن تنفض المعارك ويتوقف الرصاص، لتنهش الجثث وتقتات وتأكل، فالغربان لا تشارك في المعارك أبداً، فهي بعيدة عنها ولكنها تستطيع وبكل اقتدار أن تروي ما حدث، وكيف حدث، وأن تحلل أيضاً أسباب الحدوث.
ذلك وللأسف ما آل إليه وضع المتثوقفين العرب، أبطال ما بعد الحدث، لا اختلاف في ذلك بين يسارهم ويمينهم.
فمنذ الحادي عشر من سبتمبر شحذت الأقلام للكتابة، وجهزت الملابس وربطات العنق الأنيقة استعداد للندوات وكاميرات الفضائيات العربية.. وبدأ فرساننا نضالهم منذ ذلك التاريخ، واشتد تحليلهم شراسة بعد بدء الولايات المتحدة وحلفائها تدمير أفغانستان وشعبها تحت ذريعة محاربة الإرهاب والبحث عن بن لادن وأنصاره، ومن مفارقات القدر! المحزنة المضحكة، فقد تحالف المتثوقفون العرب مع أنظمتهم العربية في خندق واحد مع الولايات المتحدة وحلفائها في حرب "مقدسة" ضد بن لادن ومجموعته ومجمل التيارات الإسلامية الأصولية أينما كانت، فتلك حرب ضد الإرهاب وشروره!! توحدت الجهود وإن اختلفت المقاصد والنوايا.. وتلك قصة أخرى نرويها في ورقات ثلاث:
ورقة أولى توافق المصالح
ورقة أولى: زواج توافق المصالح Marriage of Convenience اختلفت الآراء وتعددت حول أسباب الدعم الكبير الذي قدمته أغلب الأنظمة العربية في الخفاء والعلن للحملة الأميركية العالمية ضد ما أسمته بـ "الإرهاب" فهناك من يرى أن الخوف من البطش الأميركي هو السبب وراء هذا الدعم، بينما يرى آخرون أن الطمع في الرضا السياسي والمساعدة الاقتصادية الأمريكية هو السبب. إلا أنني أدعي أنه قد يكون هناك سبب ثالث أصيل غير معلن وراء هذا الدعم.. حيث مثل الموقف الأمريكي والأوروبي المعادي للتيارات الإسلامية الأصولية بسبب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، فرصة لكثير من الأنظمة العربية لتصفية حسابات قديمة مع هذه التيارات، فقد اكتوت كثير من الأنظمة العربية بنيران هذه التيارات في بلادها.. وبالتالي فالوقت مناسب جداً، من وجهة نظر هذه الأنظمة، لضرب هذه التيارات وتصفية واعتقال أغلب عناصرها، فلا غرابة إذن أن نشاهد الاعتقالات والمحاكمات بالجملة لعناصر هذه التيارات في كثير من البلاد العربية.
وفتحت كثير من أجهزة الأمن العربية خزانتها ودواليبها وملفاتها للولايات المتحدة الأميركية لتغترف الأخيرة هذه كل ما تريده وما لا تريده من معلومات وبيانات عن أبناء الوطن، وهو ما لم تحصل عليه الولايات المتحدة الأميركية في كل تاريخها السابق على الحادي عشر من سبتمبر، رغم كل إمكاناتها التكنولوجية ووسائلها البوليسية، وكثرت في المقابل مطالبات بعض الأنظمة العربية، لكثير من البلاد الأوروبية لاسترداد بعض العناصر من جنسيات عربية عديدة فرت هاربة إلى بلاد الغرب خوفاً من البطش والتنكيل.. فالوقت مناسب للمطالبة، كما أنه أدعى للموافقة على تسليم هذه العناصر إلى أنظمتها العربية، فلم تعد تجدي مبررات حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية الغربية كمبرر للاحتفاظ بهذه العناصر الإرهابية، بل لعل التسليم ذاته يتم من منظور ديمقراطي وحفاظاً على سلامة الديمقراطية الغربية كما يدعون.
ولعلى أدعى- من منظور الواقعية السياسية- أن انتهاز الفرصة مشروع ومقبول. فكل الأنظمة تحافظ على أمنها واستقرارها وتضرب بيد من حديد- لو تطلب الأمر- كل المناوئين لها. إلا أن اختيار التوقيت لإتمام ذلك هو الذي قد يكون موضع تساؤل.
فورقة التيارات الإسلامية الأصولية، ومثال الجزائر بالذات، استعملت ولفترة طويلة بواسطة كثير من أنظمتنا العربية كورقة مساومة إما لعدم إعطاء مزيد من التنازلات مخافة أن تستغل ذلك التيارات الإسلامية، وإما كورقة ضغط للحصول على بعض المساعدات الاقتصادية، لأن الفقر والبطالة والجوع تستغل إيما استغلال بواسطة هذه التيارات لإحداث البلبلة وعدم الاستقرار السياسي، وبالتالي كان الأجدى بأنظمتنا، ومن منظور ميكافيللي بحت، أن تستغل ورقة التيارات الإسلامية الأصولية بطريقة أفضل ما دام ضرب هذه التيارات أصبح يمثل حاجة ملحة للولايات المتحدة الأميركية وللغرب.. أو أن تضربها في وقت أخر من اختيارها هي، وإن كنت أفضل ألا تضرب هذه التيارات وأن يحتفظ بها كورقة مساومة وضغط... فبعد أن تضرب كل هذه التيارات فبأي أوراق ضغط أخرى تساومون وأنتم لا تملكون من أدوات الضغط إلا قوة الرضوخ لها. إن النظر إلى مجموعة أهداف السياسة الخارجية كمنظومة متكاملة وشبكة مترابطة، انجاز إحداها يجب ألا يضر بانجاز بقية الأهداف، هو أمر أساسي وجوهري ولكنه مفتقد في مسار سياستنا الخارجية العربية تاريخاً وحاضراً، نحن أحوج ما نكون في هذه الفترة إلى تحديد أجندة سياستنا الخارجية وأهدافنا بمعزل واستقلالية تامة عن أجندة وأولويات الولايات المتحدة الأميركية.. الإرهاب ليس في قائمة أولوياتنا الآن، فأولوياتنا نحن كانت ومازالت تتمثل في مطالب الحرية، والتنمية الشاملة المستدامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتقرير المصير، أما الإرهاب فهو نتيجة لغياب تحقيق هذه المطالب، ونحن أحوج ما نكون أيضاً إلى أن نحدد ذلك بكل وضوح للعالم كله وفي هذه الفترة بالذات التي يتهمنا فيها الآخرون بأننا مصدر الإرهاب وأسبابه.
يجب ألا يذبح أبناؤنا قربانا لأميركا وحلفائها في هذه الفترة وإذا كان لبعض الأنظمة العربية أن تضرب بعض التيارات السياسية التي تشكل تهديداً لاستقرارها فلتختر وقتاً أخر لذلك.. لأن إتمام ذلك الآن لن يخدم مصالحها، بل لعله لن يقدر بالشكل الكافي في زحمة القتل العام الذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها، ولعل ذلك بالضبط ما حدا بإسرائيل لاستغلال الفرصة في محاولة للإجهاز على حماس والجهاد بل والسلطة الفلسطينية ذاتها.
تأسيساً على ما سبق، فإن الأجندة المستقلة هي الأساس للحديث عن أي تفاوض أو المطالبة بأية حقوق وبدونها فإن أبجديات العمل السياسي تكون قد أهدرت.
ورقة ثانية: المتثوقفون العرب.. وثقافة العجز
المثقفون، المفكرون، المتعلمون، أصحاب القلم، أيا كان المسمى، هم ضمير الأمة وقلبها النابض، ذلك ما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا، وهم المسئولون أيضاً عن صياغة الحلم الجمعي للأمة وحفز الجماهير وقيادتها لتحقيقه، وذلك أيضاً ما تقول به التنظيمات السياسية بأيديولوجياتها وانتماءاتها السياسية والمذهبية المختلفة.. ولعلي أبادر قولاً بأن الثقافة الحقة دور والتزام. ذلك أن المعرفة مسؤولية وأمانة للعب دور فاعل تجاه النفس والوطن. ومن هنا كانت "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون".. فتوحد الفكر بالحركة والقول بالفعل، هو الأمر الحاكم والجوهري بالنسبة للثقافة الحقة.. وتبعاً لذلك أيضاً يكون الفارق واضحاً بين الحديث عن التغيير وممارسة التغيير، وباستثناء الثقافة والفكر اللتين نشأتا في ظروف نضالية في تاريخنا المعاصر، لا أذكر أدوار فاعلة لمثقفينا وثقافتنا توحد فيها الفكر مع الممارسة، بل لعلي أدعي أن الهوة بين الأمرين ازدادت اتساعاً في نصف القرن الماضي من تاريخ هذه الأمة، ولعل لذلك أسباباً عديدة قد يكون من بينها بطش الأنظمة، وتجارب السجون، وعدم وجود امتداد جماهيري فاعل لكثير من الأفكار والتيارات المطروحة، قد يكون سببها الأمية أو لغة الخطاب أو أساليب التواصل، وبالتالي نشوء حالة من الإحباط واليأس، يتسع مداها وتتعمق حدتها كل يوم في محيط مثقفينا، حولت الكثيرين منهم إلى مهنة، الارتزاق الثقافي والفكري،.. وشتان بين بعدي الثقافة كدور ورسالة والثقافة كمهنة ووظيفة. هذه الأخيرة ثقافة قشرية لا عمق لها ولا جذور.. وعندما يمارس العمل الفكري والثقافي من منطلق الوظيفة والمهنة، فإنه يبتعد بشكل تلقائي عن اتخاذ المواقف الملتزمة والجادة من أمور الحياة والشأن العام ويصبح نشاط "النخبة المثقفة" ممارسة لإرادة التكيف ورد الفعل.
المحصلة الطبيعية لكل ذلك عجز الثقافة والفكر عن تقديم الحلول ومسارات الحركة تجاه المشكلات والأزمات التي تواجه الأمة. وذلك أسوأ أنواع العجز، الذي يحول تخلف الأمم والشعوب إلى حالة سرمدية تمارس خلالها وظيفة "الاستنساخ الحضاري" لما تنتجه الحضارات المتقدمة. ومن هنا شاء لي اختيار مصطلح "التثوقف" بدلاً من الثقافة لتعني إدعاء الثقافة وتوظيفها بما يتفق وأهواء ومصالح "المتثوقف" وتلك في رأيي أعلى مراتب الإفلاس الحضاري وعجز الشعوب عن الفعل والمشاركة الفاعلة في بناء مسيرة بني البشر.
ولعل أدعي أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت مثالاً صارخاً وانعكاساً واضحاً لثقافة، رد الفعل" هذه حيث تصدى كثير من المتثوقفين العرب لهذه الأحداث بالتحليل، كاشفين بذلك عمق ثقافة العجز وتجلياتها فالحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل في رأي ضربة قاسمة لمدرسة الواقعية السياسية التي سادت مجال العلاقات الدولية طيلة القرن الماضي، ويسجل في الوقت نفسه الأهمية الحيوية المتزايدة لمناهج علم النفس السياسي كمرجع في غاية الأهمية في تحليل أحداث السياسة الدولية.
ففي الحادي عشر من سبتمبر تعرضت الولايات المتحدة لضربة ساحقة، لم تتعرض لها في تاريخها السابق حتى في أقصى لحظات ضعفها وانكسارها، سواء في بيرل هاربر أو في فيتنام، سواء من حيث الخسائر البشرية أو من حيث الخسائر الاقتصادية، ناهيك عن تمريغ كبريائها وصورتها عن ذاتها في التراب.. إلا أنه في لحظات هذا الانكسار وهذه الخسارة حققت الولايات المتحدة الأميركية ما لم تحققه منذ ظهورها إلى الوجود كدولة في 1776، فقد حققت انصياعاً دولياً كاملاً وتسليماً دولياً مطلقاً بما تريده الولايات المتحدة وتسابقاً محموماً بين جميع دول العالم لإرضائها وتحقيق رغباتها.
وقع الضعفاء والفقراء، دولا ومنظمات وأفراد، ضحية لصورتهم عن ذاتهم، ككيانات ضعيفة مستضعفة، لا يمكنها الانتصار في معاركها، ولصورتهم عن الولايات المتحدة الدولة الأعظم غير القابلة للهزيمة والألم.. وبالتالي حققت أميركا في لحظات انكسارها وضعفها ما لم تحققه في كل سنوات جبروتها، وتراجع الضعفاء والفقراء وانصاعوا في لحظات قوة، ولم يقرأوا ما حدث ولم يستوعبوه، ولم يعطوا حتى أنفسهم الفرصة ليتدبروا أهم نتائجه: وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية جسم قابل للاشتعال وقابل للألم وقابل للانكسار، مثلها مثل بقية البشر.. رغم تحفظنا الإنساني والأخلاقي المطلق على قتل الأبرياء وترويعهم سواء قامت بذلك أميركا أو إسرائيل أو بن لادن، تأسيساً على ما سبق، كانت صورة الذات الدونية "السائدة لدينا أنظمة عربية ومنظمات ومتثوقفين أفراداً. هي العامل الجوهري المحرك للخطاب السياسي والإعلامي العربي بشكل عام تجاه الحدث.
تسابقت الأنظمة في الشجب والإدانة والتعاطف المعنوي والمادي والتفاخر بالتعاون الكامل في محاربة الإرهاب والإرهابيين، وانتهكت سيادات وزارات الداخلية العربية بشكل غير مسبوق لتفتح ملفاتها علناً أمام أجهزة الأمن الأميركية، في واقعة تعد الأولى من نوعها في تاريخ البشر، تحولت بموجبها الحكومات إلى جواسيس على أبنائها لصالح حكومات أخرى، فما حدث يتعدى بكثير ما يعرف بالتعاون الأمنى بين الدول ولا مسمى له إلا الانتهاك الأمني بدون مقابل.

No comments: