Tuesday, September 05, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -2

تقودنا القراءة السابقة إلى التداعي الثالث للحرب السادسة و الذي يعتبر في رأيي أكثر التداعيات أهمية من الناحية الاستراتيجية و الذي يتمثل في إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي بين العرب و إسرائيل، ذلك الميزان الذي كان دائما و منذ نشأة الدولة اليهودية في صالح إسرائيل باستثناء الخمسة أيام الأولى من حرب أكتوبر 1973. إن نظرة إسرائيل لذاتها و نظرة الآخرين لها بأنها الدولةالتي لا تقهر قد ترسخت على مر السنين بسبب الهزائم العربية المتتالية. و قد انتقلت هذه النظرة منذ ثمانينات القرن الماضي و بشكل تدريجي متصاعد إلى كثير من أنظمتنا العربية حتى تحولت إلى قناعة راسخة وخطاب رسمي معلن يدعو إلى استحالة المواجهة العسكرية مع الآلة العسكرية الإسرائيلية و بالتالي ضرورة الإلتجاء إلى ما يسمى بجهود السلام كحل وحيد للصراع العربي الإسرائيلي. و بغض النظر عن مخالفة مثل هذا الخطاب لأبجديات علم السياسة الذي يحدد أن أية جهود دبلوماسية لحل الصراع دون استنادها إلى قوة تحميها هو جهد استسلامي يفرط و لا يصون، فإن خطورة هذا الخطاب تتمثل في انتشاره إلى الأجيال الجديدة و التي لم تشهد أيا من المواجهات العربية الإسرائيلية فيتحول عندها إلى قيم راسخة و ثقافة سائدة.

و من ثم فإن ما أنجزته المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله يشكل كسرا حادا لهذا الاتجاه و التوجه و يرسم إنموذجا مشرفا أمام ألأجيال الشابة يشعرها بالفخار و الكبرياء و ذلك من خلال استعادة الثقة بالنفس و كسر أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر" . إن إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي يشكل ركيزة استراتيجية و أساسا قويا لأية مواجهات قادمة بين المقاومة و إسرائيل. إن التحقيقات التي تجري الآن في إسرائيل لكشف أسباب إخفاقات الجيش الإسرائيلي المتعددة أثناء الحرب تجسد في معناها الأعمق محاولة إسرائيلية لاستعادة صورة الذات التي تزعزعت و محاولة إصلاح ما أفسدته ضربات المقاومة اللبنانية في الوعي الجمعي الإسرائيلي، ذلك الوعي الذي يشكل الجوهر في وحدة الشعب الإسرائيلي.
و معارك الثلاث و ثلاثين يوما تحمل معنى خاصا و دلالة ذات مغزى لصانع
السياسة الخارجية الأمريكية و هو يخطط حركته المستقبلية تجاه إيران، فقد يكون ما حدث هو إنذار مسبق لما يمكن أن تؤول إليه أي مغامرة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران خصوصا لو اتخذت تلك المغامرة شكل تدخل عسكري بري في الأراضي الإيرانية. و المغزى الآخر الذي لا يقل أهمية هو ما يمثله درس المقاومة اللبنانية بالنسبة للمخطط الاستراتيجي في المنطقة الذي كان يهدف و لا يزال إلى تصفية مراكز ما يعرف بالإرهاب الإسلامي. قد تكون هذه محطة توقف غير متوقع أفسد كثيرا من الحسابات خصوصا أنه سيؤجج حدة المقاومة في العراق، كما يرسم نموذجا محفزا لحماس في الأراضي الفلسطينية حتى و إن اختلفت ظروف الجغرافيا و اعتبارات وحدة القرار.
و تداع رابع يستحق الرصد و الحوار يتجسد في المؤشرات الواضحة التي كشفت عنها معارك الثلاث و ثلاثين يوما و التي تدل بشكل قاطع على ما حصل في التخطيط و الإدارة العلمية للمعارك فمفاجآت التطوير التكنولوجي أيا كان مصدره و الذي تبدى في الأسلحة المضادة للدبابات و أنواع الصواريخ المتعددة المدى و كذلك عمق الأنفاق التي حفرت بما يتجاوز مدى القنابل الأمريكية الموجهة بالليزر و الاختراق الواضح للأجهزة الأمنية الإسرائيلية و كذلك نجاح حزب الله في الحفاظ على كل خططه و مخططاته في طي من الكتمان و بعيدا عن الإختراق المخابراتي الإسرائيلي، كل ذلك يشير بوضوح إلى عقلية علمية فذة في تخطيط و إدارة المعركة بشكل غير مسبوق في تاريخ مواجهاتنا مع العدو. إن التخطيط و الإعداد هذا كان العامل الفيصل وراء المفاجآت المتعددة التي أربكت الإدارة الإسرائيلية للمعركة بدءا من ضرب البارجة الإسرائيلية و مرورا بتدمير العديد من دبابات الميركافا و انتهاءا بطول مدى الصواريخ التي اطلقت على إسرائيل و التي ظل آخر مدى لها لغزا لم يكشف حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إن التخطيط كمهارة أعدت للمعركة و أدارتها يشكل علامة بارزة في النموذج الذي يقدمه حزب الله حتى في أمور و مجالات الحياة الأخرى حتى قبل الحرب. و تتمثل الأهمية الاستراتيجية لهذا النموذج في أنه يقدم ردا عمليا على دعاوى اتهام النموذج الإسلامي بالإرهاب و التخلف و البربرية. إن هذا النموذج الإسلامي المتحضر يتجسد بشكل جلي في انضباطيته العالية في إدارة المعركة حيث كان استهدافه الأول للآلة العسكرية الإسرائيلية مستبعدا أية أهداف مدنية من عملياته في الوقت الذي كانت الأهداف المدنية أولوية واضحة في هجمات و عمليات العدو الإسرائيلي تشهد بها أرقام القتلى من المدنيين مقارنة بما سقط من شهداء من حزب الله.

و من تجليات هذه الإدارة العلمية للمعركة كان نموذج الإدارة الإعلامية لها مقارنة بالإدارة الإسرائيلية للمعركة، فقد اتضحت أبعاد المصداقية التي اكتسبتها المقاومة اللبنانية إعلاميا مع توالي المعارك الحربية مما أكسبها مصداقية عالية حتى لدى وكالات النباء العالمية في الوقت الذي فشلت فيه الإدارة الإسرائيلية في تقديم البراهين و الدلائل على كثير من ادعائاتها و قد وصل ذلك الفشل إلى مأزق إعلامي حقيقي إبان حدوث مذبحة قانا. إن التناول الإعلامي الرصين و الصادق مضافا إلى التخطيط العلمي الذي سبق و واكب المعارك قد ساهم في رسم صورة إيجابية لنمط قيادي من نوع جديد سرعان ما التفت حوله الشوارع العربية، و لعل سرعة التفافها هذا يعكس ليس فقط شعورا طبيعيا للشارع العربي إبان المواجهات مع العدو الإسرائيلي و لكنه يجسد أيضا تعطشا شعبيا لوجود قيادة مقنعة تكتسب شرعيتها من تجسيدها لأحلام الشارع العربي أكثر من استنادها إلى شرعية السلطة، و لعل هذا الأمر الأخير في حد ذاته يعد مؤشرا غير إيجابي بالنسبة لكثير من الأنظمة العربية الرسمية التي راهنت على سقوط حزب الله في ساعات أو أيام المعركة الأولى فإذا بالنتيجة تأتي عكس توقعاتها و مخيبة لأمالها.

1 comment:

Anonymous said...

cher professeur,
j'ai beaucoup admirer vos plusieurs interventions sur la chaine al jazeera (bila hodoud) de notre cher professeur Ahmed Mansour. les idees, les reflexions strategiques et les jugements que vous avez apportes non seulement clairs et pertinents et aussi sinceres et justifies. c'est grace a vos propos j'ai bien trouver les explications relatives à la glourieuse victoire de Hiz allah. Merci professeur.