Wednesday, November 01, 2006

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الثاني

مزاد علني تباع فيه دماء البشر بأبخس الأثمان
لم تكن منظماتنا الأهلية المدافعة عن حقوق الإنسان بأفضل حالاً من أنظمتها تجاه الحدث، فلم تصدر البيانات الرنانة الطنانة المعهودة. رغم أن حقوق الإنسان العربي انتهكت أسوأ انتهاك، سواء من الأنظمة العربية إرضاء للولايات المتحدة الأميركية، أو بواسطة الدول الأوروبية وأميركا ذاتها التي استثنت من القوانين ما استثنت وألغت منها ما ألغت مخالفة بذلك أبسط حقوق الإنسان، لتضع المئات من العرب والمسلمين في سجونها دون أي سند قانوني أو شرعي يبرر ذلك.
وفي وسط هذا المزاد العلني العام، حيث تباع دماء البشر بأبخس الأثمان كان موقف المتثوقفين العرب منسجماً مع ثقافة رد الفعل والصدى، ومتفقاً في مجمله مع موقف أغلب الأنظمة العربية، حيث أنجرف كثير من المتثوقفين في الحديث عن الإرهاب إدانة أو تحليلاً. دون أن نكلف أنفسنا عناء السؤال لماذا الحديث عن الإرهاب الآن ولماذا تراجع الحديث عن أولوياتنا الحقيقية التي أسهم عدم تحقيقها بشكل مباشر وأكيد في بروز ظاهرة اللجوء إلى العنف. كأداة لتحقيق أهداف سياسية، هل يكفي كون الإرهاب أصبح أولوية أولى في سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية ليكون أيضاً أولوية مطلقة في سلم أولوياتنا؟
ولعله يمكنني إجمالا رصد اتجاهين عامين في تناول المتثوقفين العرب لإحداث سبتمبر وتداعياتها:
· اتجاه أول: ركز كتاباته وأحاديثه الصحفية والإعلامية على ما يسمى "تحسين صورة الإسلام أمام العالم والتصدي لمحاولات تشويه العرب والإسلام والمسلمين واتهامهم بالإرهاب.. وبالتالي كان محور جهود التحسين هذه هجوماً ضارياً على بن لادن وما يمثله، وتبرئة الإسلام والعرب منه ومن أتباعه والتركيز على أن الإسلام دين سلام وتسامح وتعايش بين الشعوب.
وتأسيساً على هذا امتلأت الصحف والمجلات بالمقالات العديدة لكثير من الكتاب والمفكرين والصحفيين من جميع الاتجاهات، وخصصت كثير من الفضائيات العربية الحلقات تلو الحلقات مستضيفة كبار الشخصيات الدينية والصحفية، لنقد مزاعم بن لادن ومن معه وأن الإسلام والعرب بريئون منه ومن أفعاله.. وفي رأيي أن مواقف المتثوقفين هذا قدم المبرر النظري والأخلاقي لما تفعله أميركا وحلفاؤها وكثير من الأنظمة العربية تجاه بن لادن وأنصاره، وما يسمى بالتيار الإسلامي الأصولي بصفة عامة، وبالتالي أعطى وبشكل غير مباشر وغير مقصود مصداقية كاملة لدعاوي الرئيس بوش، بأن حملته العسكرية هي حملة "الخير ضد لشر" .. إن موقف النخبة المثقفة كان يمكن أن يكون أكثر عمقاً وأكثر وعياً وفهما لما حدث ولماذا حدث فالتأمل الواعي يمكن أن يعطي قراءة مختلفة تماماً لما رددته الأنظمة العربية وما ردده المتثوقفون .
أ‌- فأسامة بن لادن هو نتاج عربي خالص، ولا يمكننا التنصل من مسؤولياتنا عن ظهوره.. أسامه بن لادن وما يمثله هو نتاج لعدم وجود أي مشروع نهوضي عربي تطرحه الأنظمة، أو الأحزاب السياسية العربية بمختلف تياراتها أو حتى المثقفون العرب كأفراد يحقق التفافاً عربياً حوله، وبفرز معايير واضحة لشرعية الحركة السياسية. أسامه بن لادن كان لابد أن يظهر وسيظهر آخرون بعده، ما دامت مشروعات البناء الديمقراطي في بلادنا العربية مرهونة في أشكالها وهياكلها ومضامينها بإرادة الحاكم يمنعها أو يمنحها كيفما شاء ومتى شاء ولمن شاء.. لابد أن يكون حق المشاركة السياسية المشروعة مكفولاً للجميع من أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وأفكارهم، إذا كان لنا أن نمنع ظهور أسامه بن لادن أخر، وأن نمنع استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
ب‌- وأسامة بن لادن وما يمثله، هو أيضاً نتاج لحالة اقتصادية عربية متردية "ليس هنا مجال الخوض في أسبابها، أفرزت مزيداً من الفقر والبطالة والجوع، والأهم من كل ذلك حالة من اليأس والقنوط دفعت بالكثيرين وستدفع بأكثر منهم إلى مواقف وتيارات صداميه مع أطر السياسة والاقتصاد الرسمية.
جـ- وأسامه بن لادن وما يمثله هو أيضاً نتاج لثقافة قشرية، شكلتها مؤسسات تنشئة عاجزة عن الفعل أو التفاعل مع معطيات عصر جوهره التغير اللحظي والمعرفة المركبة، وبالتالي لابد أن يفرز هذا الواقع الكثيرين من شاكلة بن لادن كتعبير عملي عنيف عن حالة العجز العام والإحباط المتأصل فينا.
فنحن حقيقة في حاجة إلى تحسين صورتنا أمام أنفسنا أولا، وليس أما الآخرين- فالآخرون يشكلون صورتهم عنا من خلال واقع عربي حضاري "سياسي" ثقافي- اقتصادي، اجتماعي، تقني، يرونه أمام أعينهم، وليس من خلال خطابات إعلامية تبث من خلال قنوات فضائية، وباللغة العربية أو من خلال مقالات مكتوبة في جرائدنا العربية، بل لعلى لا أبالغ إذا قلت أن ما نفعله هنا، هو تأكيد عملي أيضاً لصورتهم عنا.
إن الدعوة الآن أصبحت أكثر إلحاحاً وأكثر جرأة، للبحث في روافد ثقافتنا وعلى رأسها التراث، لتحرير العقل العربي من قيوده ولنطلق لقيم الإبداع والخلق والتفكير الحفري، فرص تشكيل مناهجنا في المدارس، وأسس التربية في بيوتنا ومضمون خطب مساجدنا، ونبراس إعلامنا بأجهزته المختلفة.. ذلك هو الطريق الأصيل لخلق عقل جمعي فاعل للأمة يستطيع ليس فقط تحسين صورتها أمام الآخرين، ولكنه وبكل تأكيد، يستطيع لعب دور فاعل ومؤثر في مسيرة الحضارة البشرية، وإلى أن يحدث ذلك يمكننا فقط تشييد عدة تماثيل لابن رشد في أسبانيا، التي يؤمها أكثر من 70 مليون سائح من كافة أقطار الأرض.. فتلك التماثيل ستكون أكثر تعبيراً ومصداقية عن حضارة سادت.. أما نحن وبواقعنا الحضاري الحالي، فإننا نفتقد مصداقية الحديث والإقناع.
وبالتالي قد نكون في حاجة إلى موقف ثقافي أكثر أصالة. يعترف أولاً أن أسامة بن لادن- رغم كل اختلافاتنا وتناقضاتنا الفكرية مع ما يمثله، والتي قد تصل حد التناقض المطلق- أكثر اتساقا مع ذاته منا، فنحن- المتثوقفون- نقول ما لا نفعل، نرفض السلطان ونلعنه ونأكل على موائده، ونلعن أميركا وسياساتها ونفكر ونأكل ونلبس ونتحاور ونعيش ونموت بطريقتها، ولعل ذلك ما يفسر هذا الإعجاب الخفي الخجول، بابن لادن وتمنياتنا الخفية الخجولة ألا تمسك به أميركا من ناحية، ورفضنا المعلن وإدانتنا لما فعله من ناحية أخرى.
ليسأل كل منا نفسه.. لماذا أعجبت الغالبية من جماهيرنا العربية وأظهرت فرحها بأشكال عديدة من السلوك واللفظ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر- في لحظاتها الأولى على الأقل، وهل حقيقة المتثوقفون العرب هم ضمير الأمة والمعبرون عن أحلامها.
· واتجاه ثان: تصدي بفكره وكتاباته- ومن منظور ثقافة رد الفعل أيضاً- ليرد ويفند ادعاءات صموئيل ها ننجتون حول "صدام الحضارات" مؤكدين على مقولات مثل "حوار الحضارات" وتواصل الحضارات" ...الخ ولعل هذا الاهتمام الجارف بكتاب وكتابات ها ننجتون. يعد في حد ذاته مؤشراً واضحاً على نوع وعمق المسألة أو المسائل لمصيرية التي تشغل بال المتثوقف العربي اليوم.
فصموئيل مانتنفتون أستاذ أميركي جامعي وكاتب يميني، كان ومازال مهتماً ومنذ منتصف الستينيات بقضية تحقيق "الاستقرار Order" في دول العالم الثالث بأي شكل وبأي ثمن، وبالتالي كان أكثر المؤيدين للنظم العسكرية في هذه الدول، باعتبارها أكثر قدرة على تحقيق النظام والاستقرار ولو بالقوة، واستمرت كتاباته على هذا المنوال من 1968 حين أصدر كتابه Poitical Order in Changing Societies داعياً لتحقيق الأمن والاستقرار وضرب كل عوامل عدم الاستقرار والتطرف التي تهدد انتشار الحضارة الغربية في دول العالم الثالث.
تأسيساً على هذا التوجه الأصيل، فإن ها ننجتون يرى في بعض التيارات الإسلامية الأصولية، خطراً ليس على الحضارة الغربية ولكن على فرص انتشارها في دول العالم الثالث.
ورغم ما في هذا الإدعاء من مغالطات، ذلك أن الأنظمة العربية والإسلامية ذاتها، تضرب بيد من حديد على هذه التيارات، التي ترى فيها تهديداً لاستقرارها وأمنها كما يراه ها ننجتون تماماً، وبالتالي لن تشكل هذه التيارات لا صداماً ولا حوارا ولا عناقاً لأي حضارة من الحضارات، فهي محاصرة محصورة، حتى وإن اختارت الشكل الديمقراطي الشرعي لتعبر عن وجودها ويكفي تجربة الجزائر مثالاً صارخاً على ذلك. إلا أن المتثوقفين العرب إنبروا خفافاً وثقالاً، لإثبات أن الحضارة العربية الإسلامية، لن تهدد الحضارة الغربية وأن العلاقة بين الحضارات هي علاقة حوار وتواصل.. وكأننا صدقنا أنفسنا فعلاً، أن واقعنا الراهن يمكنه أن يشكل حضارة أو شيئاً من حضارة، فما بالك بتهديده للحضارة الغربية المشكلة لشكل ومضمون وأسلوب حياة البشر اليوم.
لقد جهلنا أو تجاهلنا أبسط أبجديات صراع الحضارات، المتبلور حول نظرية توازن القوى، التي حكمت وما زالت تاريخ صراع حضارات بني البشر.. وبالتالي ليتنا نشغل أنفسنا أولاً مثقفين ومتثوقفين وأصحاب قلم وفكر، بأسئلة أشد إلحاحاً، وأكثر ارتباطاً بمستقبل الأمة، وكيف سيكون لو استمرت الأمور على ما هي عليه الآن، وأن تنصب أغلب جهودنا في اتجاه إعداد الطفل العربي وإمداده بأدوات وأساليب تعلم واكتساب معرفة، مختلفة تماماً عن الأدوات والأساليب التي أنتجت ثقافتنا وفكرنا السائد.. ذلك هو مدخل الإنشاء الحضاري الجديد، فقبل الحديث عن صدام الحضارة أو حوارها وتواصلها مع حضارات أخرى علينا أن نبدأ في إنشائها أولاً، ثم ليفعل الله بها ما يشاء
.

1 comment:

Anonymous said...

الاستاد الفاضل د. محمود جبريل
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نفخر بكم كمفكر ليبى كان لى شرف حضور ندوتكم عن المشروعات الصغري بطرابلس .
نتمنى لكم التوفيق

ليبيا plan@maktoob.com