Wednesday, November 01, 2006

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الثالت

هل تنجح سياسة "البلدوزر" الأميركي؟
ورقة ثالثة: قراءة مختلفة لأمريكا
يمكن القول أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر- رغم جانبها المأساوي الإنساني- مثلت فرصة نادرة للولايات المتحدة الأميركية- لتعيد صياغة أجندة مجريات السياسة الدولية والعلاقات بين الأمم طبقاً لإطار يحقق مصالحها بشكل غير مسبوق في تاريخها منذ استقلالها.. ولعلي أدعى أن الذي خلق هذه الفرصة السانحة النادرة ليس تفجيرات مركز التجارة العالمي، وإنما حقيقة ردود الفعل العالمية بكل مستوياتها.
فتفجيرات سبتمبر، أحدثت ترويعاً وخوفاً وانكساراً للهيبة الأميركية وقتلاً جماعياً لم تشهده في تاريخها، كما أحدثت ارتباكاً وتخبطاً وفزعاً على مستوى متخذي القرار الأميركي.. إلا أن ردود الفعل العالمية، دولاً ومنظمات أعادت للولايات المتحدة الأميركية ثقتها بنفسها وأعادت لها توازنها النفسي وإدراكها لذاتها. بأنها القوة الأعظم بدليل انصياع الجميع لها دولاً ومنظمات من شمال العالم وجنوبه وشرقه وغربه، وبالتالي لابد أن تكون استجابتها منسجمة مع رؤية العالم لها من ناحية، وموازية للشرخ النفسي الكبير الذي أحدثته هذه التفجيرات في نفسية المواطن الأميركي ووعيه من ناحية أخرى.
إلا أن الأمر الأكثر أهمية، أن صانعي السياسة الخارجية الأميركية رأوا- على صواب- في انصياع العالم لهم- خوفاً أو طمعاً- فرصة حقيقية لإعادة ترتيب أوضاع العلاقات بين الأمم والشعوب. بشكل يخدم أهداف أميركا الإستراتيجية لحقب قادمة:
فتحت مسمى مكافحة الإرهاب متى كان وأين كان يمكن فتح كثير من الملفات القديمة وتسويتها بشكل نهائي. فكثير من الدول والمنظمات التي أتهمت بالإرهاب في يوم من الأيام. عليها اما الانصياع بالشكل المطلوب كما تراه أميركا، وإلا عليها تحمل النتائج الوخيمة.. وبالتالي سيقوم البلدوزر الأميركي، باجتياح أراض كثيرة مدعوماً بشرعية دولية، قد تكون كاملة أحيانً ومنقوصة في أحيان أخرى، حسب نوعية الأرض التي يتم اجتياحها أو قصفها ونوعية التبريرات والدعاوي المستخدمة كذريعة لذلك. أصوات كثيرة طالما علت. من دول ومنظمات وأفراد. رافضة السياسات الأميركية مناهضة لها قولاً وفعلاً ستخبو وتتحول إلى الهمس أو الصمت المطلق تتساوى في ذلك صيحات حق تقرير المصير أو مناهضة العولمة، فالكل سيخشى الاتهام بالإرهاب، والصمت بدوره سيساعد كثيراً على تمادي أميركا في "سياسة البلدوزر" الكاسحة لكل النتوءات غير المرغوبة، وبالتالي ستتدفق القوات الأميركية والعتاد الأميركي إلى مناطق كثيرة من العالم تعقباً لبؤر الإرهاب وقواعده. وإن كنت أعتقد أن هذا التدفق سيتركز في مناطق دون غيرها. خدمة لرؤي إستراتيجية حيوية لمصالح أميركا في الربع قرن القادم..
أولها: منطقة الخليج العربي وشمال أفريقيا- ولعل بدايات هذا التمركز العسكري بدأت منذ فكرة جيمي كارتر بإنشاء "قوة التدخل السريع"، وأصبحت أكثر وضوحاً إبان حرب الخليج، بدعوى الحفاظ على بترول الخليج والدفاع عن أصدقاء أميركا ضد التهديد السوفياتي تارة، ثم الإيراني ثم العراقي تارة أخرى.. إلا أن التهديد الكامن على الأمد الطويل كان ولا يزال شبح أوروبا الموحدة كمنافس حقيقي وعدو محتمل " للولايات المتحدة في مستقبل الأيام. وبالتالي فالوجود الأميركي في هذه المنطقة الحساسة من العالم، هو احتواء مبكر لأوروبا الموحدة وما قد تحمله من تهديد لأميركا ومصالحها.
وثانيها: منطقة وسط أسيا والنمو المتصاعد للصين كدولة عظمى قد تحل قريباً محل الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى تنامي قوى نووية أخرى مثل الهند وباكستان. وبالتالي فالبناء العسكري الأميركي في هذه المنطقة تحت مسمى مطاردة الإرهاب وفلوله. يخدم أهدافاً إستراتيجية واضحة.
بناء على ما سبق. يمكن الدفع بقوة، بأن محاربة الإرهاب ستستخدم كذريعة مشروعة من الولايات المتحدة الأميركية لتحقيق مآرب وأهداف مختلفة لا علاقة للإرهاب بها. فاستخدام العنف لتحقيق أهداف سياسية سيستمر ما دامت التيارات السياسية المتطرفة "يمينية- أو "يسارية" تمنع من الوجود والمشاركة المشروعة من خلال قنوات المشاركة السياسية المتاحة في أي نظام من الأنظمة لا علاقة لذلك بإسلام أو مسيحية أو يهودية، فاليمين- على سبيل المثال- في حالة صعود ومد في دول كثيرة من العالم، والتيارات اليمينية المتطرفة تفعل فعلها، العنيف – الإرهابي- في الولايات المتحدة "أحداث أوكلاهوما" وفي إسرائيل "اغتيال إسحاق رابين، وفي مصر "أحداث الأقصر، وغيرها من الدول.
وبالتالي ستستمر هذه التيارات في الوجود ما دامت ممنوعة من الوجود السياسي والتعبير السياسي المشروع. أياً كانت أسباب هذا المنع، وان كانت أسباب المنع أكثر عمقاًُ وأهمية من ذريعة الحفاظ على الشكل الديمقراطي للعبة السياسية ، بدليل منع التيار الإسلامي من تسلم السلطة في الجزائر، رغم مشاركته المشروعة طبقاً للقواعد الديمقراطية للنظام الحاكم .. وفي المقابل أيضاً منع سيلفادور الليندي في تشيلي 1973 من السلطة رغم المشاركة المشروعة طبقاً للقواعد الديمقراطية المعمول بها، فأسباب منع التيارات الموصوفة بـ"التطرف" أكثر عمقاً من المزاعم المطروحة- إلا انه أياً كانت الأسباب فإنها تؤدي بها إلى استخدام العنف كوسيلة للتعبير عن ذاتها.
فإذا كانت أميركا تهدف إلى محاربة الإرهاب حقاً لكانت جهودها منصبة على مزيد من الديمقراطية في الأنظمة العربية والإسلامية التي تتهمها بأنها مصدر الإرهاب .. وكأن للإرهاب هوية وديناً. ولكانت مدت يد المساعدة الاقتصادية لتمكين هذه الدول من إحداث تنمية حقيقية تساهم في القضاء على الفقر والجوع والبطالة وتحسين فرص الحياة .. تلك هي المحاربة الحقيقية للإرهاب .. أما بغير ذلك فالإرهاب مستمر ما استمرت أسبابه.
ب- ومصطلح "محاربة الإرهاب" أيضاًَ أعاد للسياسة الخارجية الأمريكية إطارها المرجعي الذي افتقدته منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وبالتالي أعاد لهذه السياسة "المبرر" و"المسار" و"الهدف".
فمحاربة النفوذ السوفيتي والمد الشيوعي" كان إطاراً مرجعياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية استخدم كمبرر للتحرك الأميركي في بقاع مختلفة من العالم، وصنفت بموجبه دول العالم "مع" أو "ضد" الولايات المتحدة، من منطلق أين تقف هذه الدول في سياساتها مع الاتحاد السوفيتي، إلا أن سقوط الاتحاد السوفيتي المدوي أوجد حالة من الإفلاس الفكري السياسي لدى صناع السياسة الخارجية الأمريكية، الذين لم يتعودوا رؤية دول العالم الثالث وشعوبه بمعزل عن الاتحاد السوفيتي ... ودخلت السياسة الخارجية مرحلة تخبط ومتاهة على مستوى التأصيل النظري إلى أن وجدت ضالتها في "الإرهاب" منذ الحادي عشر من سبتمبر. فعاد صناع السياسة الخارجية الأمريكية يقسمون العالم – كما كانوا يفعلون أيام الاتحاد السوفيتي – إلى معسكرين: معسكر ضد الإرهاب ومعسكر يدعمه ويؤويه. ومن ليس معنا فهو ضدنا، ولم يعد هناك ألوان رمادية في قاموس السيد بوش ومجموعة Think Thank المحيطة به، وعاد الغطاء الأخلاقي مرة أخرى- تماماً مثل أيام الاتحاد السوفيتي- للخطاب السياسي والإعلامي الأميركي ممثلاً في قوى "الخير" التي تحارب قوى "الشر" قوى "الشيطان". من هذا المنطلق سيكتشف الكثيرون في دول العالم الثالث "أنظمة ومنظمات" أنهم من قوى "الشر" وحلفاء "الشيطان" بسبب مناداتهم بحق تقرير المصير أو حتى بحقهم في حياة أفضل.
ج- إن صحة التحليل في البندين السابقين. قد يؤدي إلى تداعيات مستقبلية من أهمها:
§ فرض كثير من التسويات للمشكلات والصراعات الإقليمية المعقدة- بما يتراءي لصناع السياسة الخارجية الأمريكية ويتفق مع مصالحها .. وفي مقدمة هذه الصراعات يأتي الصراع العربي الإسرائيلي الذي سيسوى في ضوء معطيات غير مواتية لحل يضمن الحدود الدنيا من حقوق الشعب الفلسطيني فسياسة الحديد والنار والشارونية، والمباركة الأمريكية وغياب أي دور عربي فاعل وإخماد التيارات الإسلامية المقاومة للإحتلال، لابد وأن يترك سلطة فلسطينية ضعيفة ومحاصرة لا خيار لها إلا خيار التوقيع على تسوية أساسها التصور الأميركي- الإسرائيلي لإنهاء الصراع.
إن أي مناهضة أو رفض لهذا التصور أو إصرار على مواصلة مقاومة الاحتلال، سيضع أصحابه في خانة الشيطان وقوى الشر، الذين لم يعد لهم مكان في خارطة الولايات المتحدة الأميركية الجديدة لهذا الكون.
§ تزايد الإحساس بالظلم- كرد فعل لسياسة البلدوزر الأمريكية- لدى كثير من الشعوب وبالذات في الدول العربية والإسلامية، وتفجر كثير من الصراعات الطائفية والدينية داخل بعض الدول التي تحتوى تركيباتها السكانية على أقليات دينية .. ولعل بعض الدول في افر يقيا وآسيا ستكون المرشح الطبيعي الأول لمثل هذه الصراعات.
§ التوجيه التدريجي لكثير من الدول في عالمنا الثالث نحو الصين أولاً ثم نحو أوروبا ثانيا لعقد اتفاقات استراتيجية تذكرنا باتفاقات التعاون العسكري مع الاتحاد السوفيتي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهو الأمر الذي يدفع العالم- في حالة تحقق ذلك- إلى ظاهرة الاستقطاب الدولي مرة أخرى.
§ تخصيص مزيد من الموارد والأموال للأبحاث والتطوير في المجالات العسكرية في أميركا وبعض الدول الأوروبية كنتيجة طبيعية لتقييم أداء كثير من الأسلحة على الأراضي الأفغانية، وفي أراض أخرى، وهو ما سيلقي بأعباء متزايدة على الميزانية الأمريكية والاقتصاد الأميركي في السنوات القادمة، كما ستظهر مفاهيم جديدة للأمن والأساليب والأدوات التكنولوجية اللازمة لتحقيقه داخل الدول الصناعية حفاظاً على منشآتها الحيوية، وسلامة مواطنيها.
§ تسارع وتيرة العولمة بجوانبها المختلفة. وإن كان البعدان السياسي والعسكري سيكتسبان أهمية متزايدة، على حساب الجوانب الاقتصادية والمالية التي كانت تشكل الجوانب الأكثر أهمية في ظاهرة العولمة بينا ستشهد الجوانب الثقافية للعولمة ارتداداِ واضحاً كرد فعل منطقي لكثير من الشعوب التي سيدفعها القهر والظلم والتمييز وإجراءات السفر، وسياسات الهجرة وتأشيرات الدخول إلى الرجوع إلى تراثها والاعتداد بأصولها الثقافية وتاريخها.
§ تكريس فشل النظام الليبرالي – نظرياً وعملياً- في التعامل مع الأزمات الخارجية والداخلية الكبرى ففي أثناء الأزمات، مثلما حدث إبان الحادي عشر من سبتمبر وكما هي الحال تماماً إبان الفترة المكارثية في الخمسينات من القرن الماضي، تلجا أميركا إلى أدوات ووسائل قمعية، وتصدر القوانين والإجراءات الاستثنائية المناقضة لطبيعة ومحتوى النظام الليبرالي لتتعامل مع أزماتها ضاربة بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية عرض الحائط.
§ إن هذا الفشل المتكرر يفرض تساؤلات جوهرية حول مصداقية النظام الليبرالي – كنظرية ونظام- يدعي تناقضه وعداءه المطلق للنظم الشمولية والدكتاتورية في العالم.
§ فقدان منظمة الأمم المتحدة لما تبقى لها من هيبة وشرعية وجود، ذلك أن كثيراً من الترتيبات والتحركات الأمريكية التي ستحدث في بقاع كثيرة من الأرض ستكون متعارضة مع ميثاقها,, ولا يستبعد والحال هذه ، أن تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى إنشاء كيان تنظيمي دولي جديد يكون أكثر انسجاماً مع عالمنا الذي بدأت في تكوينه بعد الحادي عشر من سبتمبر الماضي.
§ ظهور بوادر خلافات وانشقاق داخل التحالف الغربي المؤيد للولايات المتحدة الأمريكية في سياستها ضد الإرهاب- وبالذات عندما تبدأ الأقدام الأمريكية في اجتياح أراض. ليس هناك اتفاق مسبق. أنها كانت مهدا للإرهاب أو مصدراً له .. إلا أن هذه الخلافات لن تكون بالخطورة التي تدفع ببعض دول التحالف الغربي إلي تعريض مصالحها مع الولايات المتحدة الأميركية للخطر.
§ تأسيسا على كل ما سبق يمكن القول انه تلوح في الأفق فرصة حقيقية أساسها أولاً عدم قبول الآخر لنا رغم تفاوت سياساتنا وتوجهاتنا نحوه.
§ وأساسها ثانياً: تحول كثير من الأجواء والبيئات في أمبركا وأوربا إلى أجواء وبيئات طاردة- في الأمد القصير على الأقل- لنا ولاستثماراتنا، وأساسها ثالثاً: الاستخفاف وعدم الالتفات الى كثير من مطالبنا المشروعة وحقوقنا ولو في حدها الأدنى.
§ ومن ثم قد تكون الفرصة مهيأة أكثر من أي وقت مضى لبدء الكلمات الأولى في حوار عربي – عربي جاد اعتقد أنه لدى المثقفين والمفكرين العرب بمختلف انتماءاتهم الكثير للإسهام به لتحديد شكله ومضمونه ومساره ,. فمن يدري لعل الحادي عشر من سبتمبر يمثل فرصة لنا كعرب لبدء عقد جديد، كما مثل فرصة لأميركا تحاول من خلالها خلق عالم جديد لن يكون لنا وجود فاعل فيه، إلا إذا أمكننا تحقيق وجودنا الفاعل داخل أوطاننا أولاً، فتلك هي البداية الحقة للحفاظ على أوطاننا هذه على خارطة الكون الجديد.

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الثاني

مزاد علني تباع فيه دماء البشر بأبخس الأثمان
لم تكن منظماتنا الأهلية المدافعة عن حقوق الإنسان بأفضل حالاً من أنظمتها تجاه الحدث، فلم تصدر البيانات الرنانة الطنانة المعهودة. رغم أن حقوق الإنسان العربي انتهكت أسوأ انتهاك، سواء من الأنظمة العربية إرضاء للولايات المتحدة الأميركية، أو بواسطة الدول الأوروبية وأميركا ذاتها التي استثنت من القوانين ما استثنت وألغت منها ما ألغت مخالفة بذلك أبسط حقوق الإنسان، لتضع المئات من العرب والمسلمين في سجونها دون أي سند قانوني أو شرعي يبرر ذلك.
وفي وسط هذا المزاد العلني العام، حيث تباع دماء البشر بأبخس الأثمان كان موقف المتثوقفين العرب منسجماً مع ثقافة رد الفعل والصدى، ومتفقاً في مجمله مع موقف أغلب الأنظمة العربية، حيث أنجرف كثير من المتثوقفين في الحديث عن الإرهاب إدانة أو تحليلاً. دون أن نكلف أنفسنا عناء السؤال لماذا الحديث عن الإرهاب الآن ولماذا تراجع الحديث عن أولوياتنا الحقيقية التي أسهم عدم تحقيقها بشكل مباشر وأكيد في بروز ظاهرة اللجوء إلى العنف. كأداة لتحقيق أهداف سياسية، هل يكفي كون الإرهاب أصبح أولوية أولى في سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية ليكون أيضاً أولوية مطلقة في سلم أولوياتنا؟
ولعله يمكنني إجمالا رصد اتجاهين عامين في تناول المتثوقفين العرب لإحداث سبتمبر وتداعياتها:
· اتجاه أول: ركز كتاباته وأحاديثه الصحفية والإعلامية على ما يسمى "تحسين صورة الإسلام أمام العالم والتصدي لمحاولات تشويه العرب والإسلام والمسلمين واتهامهم بالإرهاب.. وبالتالي كان محور جهود التحسين هذه هجوماً ضارياً على بن لادن وما يمثله، وتبرئة الإسلام والعرب منه ومن أتباعه والتركيز على أن الإسلام دين سلام وتسامح وتعايش بين الشعوب.
وتأسيساً على هذا امتلأت الصحف والمجلات بالمقالات العديدة لكثير من الكتاب والمفكرين والصحفيين من جميع الاتجاهات، وخصصت كثير من الفضائيات العربية الحلقات تلو الحلقات مستضيفة كبار الشخصيات الدينية والصحفية، لنقد مزاعم بن لادن ومن معه وأن الإسلام والعرب بريئون منه ومن أفعاله.. وفي رأيي أن مواقف المتثوقفين هذا قدم المبرر النظري والأخلاقي لما تفعله أميركا وحلفاؤها وكثير من الأنظمة العربية تجاه بن لادن وأنصاره، وما يسمى بالتيار الإسلامي الأصولي بصفة عامة، وبالتالي أعطى وبشكل غير مباشر وغير مقصود مصداقية كاملة لدعاوي الرئيس بوش، بأن حملته العسكرية هي حملة "الخير ضد لشر" .. إن موقف النخبة المثقفة كان يمكن أن يكون أكثر عمقاً وأكثر وعياً وفهما لما حدث ولماذا حدث فالتأمل الواعي يمكن أن يعطي قراءة مختلفة تماماً لما رددته الأنظمة العربية وما ردده المتثوقفون .
أ‌- فأسامة بن لادن هو نتاج عربي خالص، ولا يمكننا التنصل من مسؤولياتنا عن ظهوره.. أسامه بن لادن وما يمثله هو نتاج لعدم وجود أي مشروع نهوضي عربي تطرحه الأنظمة، أو الأحزاب السياسية العربية بمختلف تياراتها أو حتى المثقفون العرب كأفراد يحقق التفافاً عربياً حوله، وبفرز معايير واضحة لشرعية الحركة السياسية. أسامه بن لادن كان لابد أن يظهر وسيظهر آخرون بعده، ما دامت مشروعات البناء الديمقراطي في بلادنا العربية مرهونة في أشكالها وهياكلها ومضامينها بإرادة الحاكم يمنعها أو يمنحها كيفما شاء ومتى شاء ولمن شاء.. لابد أن يكون حق المشاركة السياسية المشروعة مكفولاً للجميع من أبناء الوطن بغض النظر عن انتماءاتهم وعقائدهم وأفكارهم، إذا كان لنا أن نمنع ظهور أسامه بن لادن أخر، وأن نمنع استخدام العنف كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية.
ب‌- وأسامة بن لادن وما يمثله، هو أيضاً نتاج لحالة اقتصادية عربية متردية "ليس هنا مجال الخوض في أسبابها، أفرزت مزيداً من الفقر والبطالة والجوع، والأهم من كل ذلك حالة من اليأس والقنوط دفعت بالكثيرين وستدفع بأكثر منهم إلى مواقف وتيارات صداميه مع أطر السياسة والاقتصاد الرسمية.
جـ- وأسامه بن لادن وما يمثله هو أيضاً نتاج لثقافة قشرية، شكلتها مؤسسات تنشئة عاجزة عن الفعل أو التفاعل مع معطيات عصر جوهره التغير اللحظي والمعرفة المركبة، وبالتالي لابد أن يفرز هذا الواقع الكثيرين من شاكلة بن لادن كتعبير عملي عنيف عن حالة العجز العام والإحباط المتأصل فينا.
فنحن حقيقة في حاجة إلى تحسين صورتنا أمام أنفسنا أولا، وليس أما الآخرين- فالآخرون يشكلون صورتهم عنا من خلال واقع عربي حضاري "سياسي" ثقافي- اقتصادي، اجتماعي، تقني، يرونه أمام أعينهم، وليس من خلال خطابات إعلامية تبث من خلال قنوات فضائية، وباللغة العربية أو من خلال مقالات مكتوبة في جرائدنا العربية، بل لعلى لا أبالغ إذا قلت أن ما نفعله هنا، هو تأكيد عملي أيضاً لصورتهم عنا.
إن الدعوة الآن أصبحت أكثر إلحاحاً وأكثر جرأة، للبحث في روافد ثقافتنا وعلى رأسها التراث، لتحرير العقل العربي من قيوده ولنطلق لقيم الإبداع والخلق والتفكير الحفري، فرص تشكيل مناهجنا في المدارس، وأسس التربية في بيوتنا ومضمون خطب مساجدنا، ونبراس إعلامنا بأجهزته المختلفة.. ذلك هو الطريق الأصيل لخلق عقل جمعي فاعل للأمة يستطيع ليس فقط تحسين صورتها أمام الآخرين، ولكنه وبكل تأكيد، يستطيع لعب دور فاعل ومؤثر في مسيرة الحضارة البشرية، وإلى أن يحدث ذلك يمكننا فقط تشييد عدة تماثيل لابن رشد في أسبانيا، التي يؤمها أكثر من 70 مليون سائح من كافة أقطار الأرض.. فتلك التماثيل ستكون أكثر تعبيراً ومصداقية عن حضارة سادت.. أما نحن وبواقعنا الحضاري الحالي، فإننا نفتقد مصداقية الحديث والإقناع.
وبالتالي قد نكون في حاجة إلى موقف ثقافي أكثر أصالة. يعترف أولاً أن أسامة بن لادن- رغم كل اختلافاتنا وتناقضاتنا الفكرية مع ما يمثله، والتي قد تصل حد التناقض المطلق- أكثر اتساقا مع ذاته منا، فنحن- المتثوقفون- نقول ما لا نفعل، نرفض السلطان ونلعنه ونأكل على موائده، ونلعن أميركا وسياساتها ونفكر ونأكل ونلبس ونتحاور ونعيش ونموت بطريقتها، ولعل ذلك ما يفسر هذا الإعجاب الخفي الخجول، بابن لادن وتمنياتنا الخفية الخجولة ألا تمسك به أميركا من ناحية، ورفضنا المعلن وإدانتنا لما فعله من ناحية أخرى.
ليسأل كل منا نفسه.. لماذا أعجبت الغالبية من جماهيرنا العربية وأظهرت فرحها بأشكال عديدة من السلوك واللفظ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر- في لحظاتها الأولى على الأقل، وهل حقيقة المتثوقفون العرب هم ضمير الأمة والمعبرون عن أحلامها.
· واتجاه ثان: تصدي بفكره وكتاباته- ومن منظور ثقافة رد الفعل أيضاً- ليرد ويفند ادعاءات صموئيل ها ننجتون حول "صدام الحضارات" مؤكدين على مقولات مثل "حوار الحضارات" وتواصل الحضارات" ...الخ ولعل هذا الاهتمام الجارف بكتاب وكتابات ها ننجتون. يعد في حد ذاته مؤشراً واضحاً على نوع وعمق المسألة أو المسائل لمصيرية التي تشغل بال المتثوقف العربي اليوم.
فصموئيل مانتنفتون أستاذ أميركي جامعي وكاتب يميني، كان ومازال مهتماً ومنذ منتصف الستينيات بقضية تحقيق "الاستقرار Order" في دول العالم الثالث بأي شكل وبأي ثمن، وبالتالي كان أكثر المؤيدين للنظم العسكرية في هذه الدول، باعتبارها أكثر قدرة على تحقيق النظام والاستقرار ولو بالقوة، واستمرت كتاباته على هذا المنوال من 1968 حين أصدر كتابه Poitical Order in Changing Societies داعياً لتحقيق الأمن والاستقرار وضرب كل عوامل عدم الاستقرار والتطرف التي تهدد انتشار الحضارة الغربية في دول العالم الثالث.
تأسيساً على هذا التوجه الأصيل، فإن ها ننجتون يرى في بعض التيارات الإسلامية الأصولية، خطراً ليس على الحضارة الغربية ولكن على فرص انتشارها في دول العالم الثالث.
ورغم ما في هذا الإدعاء من مغالطات، ذلك أن الأنظمة العربية والإسلامية ذاتها، تضرب بيد من حديد على هذه التيارات، التي ترى فيها تهديداً لاستقرارها وأمنها كما يراه ها ننجتون تماماً، وبالتالي لن تشكل هذه التيارات لا صداماً ولا حوارا ولا عناقاً لأي حضارة من الحضارات، فهي محاصرة محصورة، حتى وإن اختارت الشكل الديمقراطي الشرعي لتعبر عن وجودها ويكفي تجربة الجزائر مثالاً صارخاً على ذلك. إلا أن المتثوقفين العرب إنبروا خفافاً وثقالاً، لإثبات أن الحضارة العربية الإسلامية، لن تهدد الحضارة الغربية وأن العلاقة بين الحضارات هي علاقة حوار وتواصل.. وكأننا صدقنا أنفسنا فعلاً، أن واقعنا الراهن يمكنه أن يشكل حضارة أو شيئاً من حضارة، فما بالك بتهديده للحضارة الغربية المشكلة لشكل ومضمون وأسلوب حياة البشر اليوم.
لقد جهلنا أو تجاهلنا أبسط أبجديات صراع الحضارات، المتبلور حول نظرية توازن القوى، التي حكمت وما زالت تاريخ صراع حضارات بني البشر.. وبالتالي ليتنا نشغل أنفسنا أولاً مثقفين ومتثوقفين وأصحاب قلم وفكر، بأسئلة أشد إلحاحاً، وأكثر ارتباطاً بمستقبل الأمة، وكيف سيكون لو استمرت الأمور على ما هي عليه الآن، وأن تنصب أغلب جهودنا في اتجاه إعداد الطفل العربي وإمداده بأدوات وأساليب تعلم واكتساب معرفة، مختلفة تماماً عن الأدوات والأساليب التي أنتجت ثقافتنا وفكرنا السائد.. ذلك هو مدخل الإنشاء الحضاري الجديد، فقبل الحديث عن صدام الحضارة أو حوارها وتواصلها مع حضارات أخرى علينا أن نبدأ في إنشائها أولاً، ثم ليفعل الله بها ما يشاء
.

سبتمبر 11 و أوراق من ثقافة العجز -الجزء الأول

متى يكون للعرب أجندة مستقلة؟
كعادتها دائماً حين اندلاع الحروب أو أحداث العنف والأزمات، انطلقت الغربان إلى الفضاء في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، محلقة في انتظار الدم والجثث والأشلاء لتبدأ ممارسة مهامها بعد أن تنفض المعارك ويتوقف الرصاص، لتنهش الجثث وتقتات وتأكل، فالغربان لا تشارك في المعارك أبداً، فهي بعيدة عنها ولكنها تستطيع وبكل اقتدار أن تروي ما حدث، وكيف حدث، وأن تحلل أيضاً أسباب الحدوث.
ذلك وللأسف ما آل إليه وضع المتثوقفين العرب، أبطال ما بعد الحدث، لا اختلاف في ذلك بين يسارهم ويمينهم.
فمنذ الحادي عشر من سبتمبر شحذت الأقلام للكتابة، وجهزت الملابس وربطات العنق الأنيقة استعداد للندوات وكاميرات الفضائيات العربية.. وبدأ فرساننا نضالهم منذ ذلك التاريخ، واشتد تحليلهم شراسة بعد بدء الولايات المتحدة وحلفائها تدمير أفغانستان وشعبها تحت ذريعة محاربة الإرهاب والبحث عن بن لادن وأنصاره، ومن مفارقات القدر! المحزنة المضحكة، فقد تحالف المتثوقفون العرب مع أنظمتهم العربية في خندق واحد مع الولايات المتحدة وحلفائها في حرب "مقدسة" ضد بن لادن ومجموعته ومجمل التيارات الإسلامية الأصولية أينما كانت، فتلك حرب ضد الإرهاب وشروره!! توحدت الجهود وإن اختلفت المقاصد والنوايا.. وتلك قصة أخرى نرويها في ورقات ثلاث:
ورقة أولى توافق المصالح
ورقة أولى: زواج توافق المصالح Marriage of Convenience اختلفت الآراء وتعددت حول أسباب الدعم الكبير الذي قدمته أغلب الأنظمة العربية في الخفاء والعلن للحملة الأميركية العالمية ضد ما أسمته بـ "الإرهاب" فهناك من يرى أن الخوف من البطش الأميركي هو السبب وراء هذا الدعم، بينما يرى آخرون أن الطمع في الرضا السياسي والمساعدة الاقتصادية الأمريكية هو السبب. إلا أنني أدعي أنه قد يكون هناك سبب ثالث أصيل غير معلن وراء هذا الدعم.. حيث مثل الموقف الأمريكي والأوروبي المعادي للتيارات الإسلامية الأصولية بسبب ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر، فرصة لكثير من الأنظمة العربية لتصفية حسابات قديمة مع هذه التيارات، فقد اكتوت كثير من الأنظمة العربية بنيران هذه التيارات في بلادها.. وبالتالي فالوقت مناسب جداً، من وجهة نظر هذه الأنظمة، لضرب هذه التيارات وتصفية واعتقال أغلب عناصرها، فلا غرابة إذن أن نشاهد الاعتقالات والمحاكمات بالجملة لعناصر هذه التيارات في كثير من البلاد العربية.
وفتحت كثير من أجهزة الأمن العربية خزانتها ودواليبها وملفاتها للولايات المتحدة الأميركية لتغترف الأخيرة هذه كل ما تريده وما لا تريده من معلومات وبيانات عن أبناء الوطن، وهو ما لم تحصل عليه الولايات المتحدة الأميركية في كل تاريخها السابق على الحادي عشر من سبتمبر، رغم كل إمكاناتها التكنولوجية ووسائلها البوليسية، وكثرت في المقابل مطالبات بعض الأنظمة العربية، لكثير من البلاد الأوروبية لاسترداد بعض العناصر من جنسيات عربية عديدة فرت هاربة إلى بلاد الغرب خوفاً من البطش والتنكيل.. فالوقت مناسب للمطالبة، كما أنه أدعى للموافقة على تسليم هذه العناصر إلى أنظمتها العربية، فلم تعد تجدي مبررات حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية الغربية كمبرر للاحتفاظ بهذه العناصر الإرهابية، بل لعل التسليم ذاته يتم من منظور ديمقراطي وحفاظاً على سلامة الديمقراطية الغربية كما يدعون.
ولعلى أدعى- من منظور الواقعية السياسية- أن انتهاز الفرصة مشروع ومقبول. فكل الأنظمة تحافظ على أمنها واستقرارها وتضرب بيد من حديد- لو تطلب الأمر- كل المناوئين لها. إلا أن اختيار التوقيت لإتمام ذلك هو الذي قد يكون موضع تساؤل.
فورقة التيارات الإسلامية الأصولية، ومثال الجزائر بالذات، استعملت ولفترة طويلة بواسطة كثير من أنظمتنا العربية كورقة مساومة إما لعدم إعطاء مزيد من التنازلات مخافة أن تستغل ذلك التيارات الإسلامية، وإما كورقة ضغط للحصول على بعض المساعدات الاقتصادية، لأن الفقر والبطالة والجوع تستغل إيما استغلال بواسطة هذه التيارات لإحداث البلبلة وعدم الاستقرار السياسي، وبالتالي كان الأجدى بأنظمتنا، ومن منظور ميكافيللي بحت، أن تستغل ورقة التيارات الإسلامية الأصولية بطريقة أفضل ما دام ضرب هذه التيارات أصبح يمثل حاجة ملحة للولايات المتحدة الأميركية وللغرب.. أو أن تضربها في وقت أخر من اختيارها هي، وإن كنت أفضل ألا تضرب هذه التيارات وأن يحتفظ بها كورقة مساومة وضغط... فبعد أن تضرب كل هذه التيارات فبأي أوراق ضغط أخرى تساومون وأنتم لا تملكون من أدوات الضغط إلا قوة الرضوخ لها. إن النظر إلى مجموعة أهداف السياسة الخارجية كمنظومة متكاملة وشبكة مترابطة، انجاز إحداها يجب ألا يضر بانجاز بقية الأهداف، هو أمر أساسي وجوهري ولكنه مفتقد في مسار سياستنا الخارجية العربية تاريخاً وحاضراً، نحن أحوج ما نكون في هذه الفترة إلى تحديد أجندة سياستنا الخارجية وأهدافنا بمعزل واستقلالية تامة عن أجندة وأولويات الولايات المتحدة الأميركية.. الإرهاب ليس في قائمة أولوياتنا الآن، فأولوياتنا نحن كانت ومازالت تتمثل في مطالب الحرية، والتنمية الشاملة المستدامة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتقرير المصير، أما الإرهاب فهو نتيجة لغياب تحقيق هذه المطالب، ونحن أحوج ما نكون أيضاً إلى أن نحدد ذلك بكل وضوح للعالم كله وفي هذه الفترة بالذات التي يتهمنا فيها الآخرون بأننا مصدر الإرهاب وأسبابه.
يجب ألا يذبح أبناؤنا قربانا لأميركا وحلفائها في هذه الفترة وإذا كان لبعض الأنظمة العربية أن تضرب بعض التيارات السياسية التي تشكل تهديداً لاستقرارها فلتختر وقتاً أخر لذلك.. لأن إتمام ذلك الآن لن يخدم مصالحها، بل لعله لن يقدر بالشكل الكافي في زحمة القتل العام الذي تمارسه أمريكا وحلفاؤها، ولعل ذلك بالضبط ما حدا بإسرائيل لاستغلال الفرصة في محاولة للإجهاز على حماس والجهاد بل والسلطة الفلسطينية ذاتها.
تأسيساً على ما سبق، فإن الأجندة المستقلة هي الأساس للحديث عن أي تفاوض أو المطالبة بأية حقوق وبدونها فإن أبجديات العمل السياسي تكون قد أهدرت.
ورقة ثانية: المتثوقفون العرب.. وثقافة العجز
المثقفون، المفكرون، المتعلمون، أصحاب القلم، أيا كان المسمى، هم ضمير الأمة وقلبها النابض، ذلك ما تعلمناه في مدارسنا وجامعاتنا، وهم المسئولون أيضاً عن صياغة الحلم الجمعي للأمة وحفز الجماهير وقيادتها لتحقيقه، وذلك أيضاً ما تقول به التنظيمات السياسية بأيديولوجياتها وانتماءاتها السياسية والمذهبية المختلفة.. ولعلي أبادر قولاً بأن الثقافة الحقة دور والتزام. ذلك أن المعرفة مسؤولية وأمانة للعب دور فاعل تجاه النفس والوطن. ومن هنا كانت "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون".. فتوحد الفكر بالحركة والقول بالفعل، هو الأمر الحاكم والجوهري بالنسبة للثقافة الحقة.. وتبعاً لذلك أيضاً يكون الفارق واضحاً بين الحديث عن التغيير وممارسة التغيير، وباستثناء الثقافة والفكر اللتين نشأتا في ظروف نضالية في تاريخنا المعاصر، لا أذكر أدوار فاعلة لمثقفينا وثقافتنا توحد فيها الفكر مع الممارسة، بل لعلي أدعي أن الهوة بين الأمرين ازدادت اتساعاً في نصف القرن الماضي من تاريخ هذه الأمة، ولعل لذلك أسباباً عديدة قد يكون من بينها بطش الأنظمة، وتجارب السجون، وعدم وجود امتداد جماهيري فاعل لكثير من الأفكار والتيارات المطروحة، قد يكون سببها الأمية أو لغة الخطاب أو أساليب التواصل، وبالتالي نشوء حالة من الإحباط واليأس، يتسع مداها وتتعمق حدتها كل يوم في محيط مثقفينا، حولت الكثيرين منهم إلى مهنة، الارتزاق الثقافي والفكري،.. وشتان بين بعدي الثقافة كدور ورسالة والثقافة كمهنة ووظيفة. هذه الأخيرة ثقافة قشرية لا عمق لها ولا جذور.. وعندما يمارس العمل الفكري والثقافي من منطلق الوظيفة والمهنة، فإنه يبتعد بشكل تلقائي عن اتخاذ المواقف الملتزمة والجادة من أمور الحياة والشأن العام ويصبح نشاط "النخبة المثقفة" ممارسة لإرادة التكيف ورد الفعل.
المحصلة الطبيعية لكل ذلك عجز الثقافة والفكر عن تقديم الحلول ومسارات الحركة تجاه المشكلات والأزمات التي تواجه الأمة. وذلك أسوأ أنواع العجز، الذي يحول تخلف الأمم والشعوب إلى حالة سرمدية تمارس خلالها وظيفة "الاستنساخ الحضاري" لما تنتجه الحضارات المتقدمة. ومن هنا شاء لي اختيار مصطلح "التثوقف" بدلاً من الثقافة لتعني إدعاء الثقافة وتوظيفها بما يتفق وأهواء ومصالح "المتثوقف" وتلك في رأيي أعلى مراتب الإفلاس الحضاري وعجز الشعوب عن الفعل والمشاركة الفاعلة في بناء مسيرة بني البشر.
ولعل أدعي أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كانت مثالاً صارخاً وانعكاساً واضحاً لثقافة، رد الفعل" هذه حيث تصدى كثير من المتثوقفين العرب لهذه الأحداث بالتحليل، كاشفين بذلك عمق ثقافة العجز وتجلياتها فالحادي عشر من سبتمبر 2001 يمثل في رأي ضربة قاسمة لمدرسة الواقعية السياسية التي سادت مجال العلاقات الدولية طيلة القرن الماضي، ويسجل في الوقت نفسه الأهمية الحيوية المتزايدة لمناهج علم النفس السياسي كمرجع في غاية الأهمية في تحليل أحداث السياسة الدولية.
ففي الحادي عشر من سبتمبر تعرضت الولايات المتحدة لضربة ساحقة، لم تتعرض لها في تاريخها السابق حتى في أقصى لحظات ضعفها وانكسارها، سواء في بيرل هاربر أو في فيتنام، سواء من حيث الخسائر البشرية أو من حيث الخسائر الاقتصادية، ناهيك عن تمريغ كبريائها وصورتها عن ذاتها في التراب.. إلا أنه في لحظات هذا الانكسار وهذه الخسارة حققت الولايات المتحدة الأميركية ما لم تحققه منذ ظهورها إلى الوجود كدولة في 1776، فقد حققت انصياعاً دولياً كاملاً وتسليماً دولياً مطلقاً بما تريده الولايات المتحدة وتسابقاً محموماً بين جميع دول العالم لإرضائها وتحقيق رغباتها.
وقع الضعفاء والفقراء، دولا ومنظمات وأفراد، ضحية لصورتهم عن ذاتهم، ككيانات ضعيفة مستضعفة، لا يمكنها الانتصار في معاركها، ولصورتهم عن الولايات المتحدة الدولة الأعظم غير القابلة للهزيمة والألم.. وبالتالي حققت أميركا في لحظات انكسارها وضعفها ما لم تحققه في كل سنوات جبروتها، وتراجع الضعفاء والفقراء وانصاعوا في لحظات قوة، ولم يقرأوا ما حدث ولم يستوعبوه، ولم يعطوا حتى أنفسهم الفرصة ليتدبروا أهم نتائجه: وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية جسم قابل للاشتعال وقابل للألم وقابل للانكسار، مثلها مثل بقية البشر.. رغم تحفظنا الإنساني والأخلاقي المطلق على قتل الأبرياء وترويعهم سواء قامت بذلك أميركا أو إسرائيل أو بن لادن، تأسيساً على ما سبق، كانت صورة الذات الدونية "السائدة لدينا أنظمة عربية ومنظمات ومتثوقفين أفراداً. هي العامل الجوهري المحرك للخطاب السياسي والإعلامي العربي بشكل عام تجاه الحدث.
تسابقت الأنظمة في الشجب والإدانة والتعاطف المعنوي والمادي والتفاخر بالتعاون الكامل في محاربة الإرهاب والإرهابيين، وانتهكت سيادات وزارات الداخلية العربية بشكل غير مسبوق لتفتح ملفاتها علناً أمام أجهزة الأمن الأميركية، في واقعة تعد الأولى من نوعها في تاريخ البشر، تحولت بموجبها الحكومات إلى جواسيس على أبنائها لصالح حكومات أخرى، فما حدث يتعدى بكثير ما يعرف بالتعاون الأمنى بين الدول ولا مسمى له إلا الانتهاك الأمني بدون مقابل.

Friday, October 06, 2006

‏ 11سبتمبر‏..‏ الدلالات والتداعيات والعواقب


توقفت كثيرا عند ظاهره ندره الكتابات والمقالات التي نشرت في جرائدنا ومجلاتنا العربيه حول ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحده الامريكيه‏,‏ رغم انه سيشكل علامه فاصله في تاريخ العلاقات الدوليه ولسنوات طويله قادمه‏..‏ ولعلني اجد الكثير من المبررات لاحجام الكثيرين عن الكتابه في هذه اللحظات بالذات‏,‏ فالكثيرون لم يفيقوا بعد من مفاجاه ما حدث‏,‏ واخرون مازالوا في طور محاوله استيعابه‏..‏ وفريق ثالث اثر عدم تسجيل مشاعره وخواطره لاسباب اخري يمكن ان تفهم ضمنا دون البوح بها‏..‏ وبالتالي ترددت كثيرا في كتابه هذه الاسطر لان ما حدث مازال عصيا علي التحليل في كيفيه حدوثه من منطلق عدم معرفه كثير من التفاصيل‏,‏ ولعل بعضها لن يعرف علي الاطلاق‏..‏كما ان اسبابه ودوافعه ليست كلها بالوضوح والبساطه التي قد تبدو للبعض‏..‏ الا ان ترددي بدا يتلاشي تدريجيا كلما زاد استشعاري لجسامه وهول ما هو ات في قليل الايام القادمه‏..‏ ومن ثم وجدتني اقارن بين الكتابه الان وهي مجازفه ومخاطره من منظور احتمال الخطا في التحليل والتسرع في اصدار الاحكام وبين عدم الكتابه كعمل انتحاري من منظور عدم البوح بما استشعره من جلل الاحداث القادمه‏..‏ وبالتالي كان اختيار عواقب خطا التحليل اخف وطاه‏..‏فلم يعد يشغلني ما حدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا؟ ومن المسئول؟ رغم الاهميه القصوي لهده الاسئله‏..‏ ولكنني اكثر انشغالا بدلالات وتداعيات وعواقب ما حدث‏,‏ ولعلني مندفع ومدفوع لرصد الهواجس التاليه‏:‏اولا‏:‏ رغم الخسائر الماديه والبشريه الضخمه التي احدثتها انفجارات نيويورك وواشنطن يوم الحادي عشر من سبتمبر الماضي‏(‏ اكثر من خسائر الهجوم علي بيرل هاربور الذي دفع الولايات المتحده الي استعمال السلاح الذري لاول مره في التاريخ‏)‏ الا ان الدمار والخساره النفسيه والمعنويه ممثله في ضرب سمعه الولايات المتحده وكبريائها باعتبارها اقوي دوله علي وجه الارض اعمق وافدح بكثير‏,‏ ولعلني لا ابالغ في القول بان جرح وكسر الكبرياء الامريكي بهذه القسوه والبشاعه يفوق بكثير ما احدثته حرب فيتنام في الوعي العام الامريكي ورؤيه الامريكيه لذاته‏..‏ ان استعاده الهيبه والكرامه الامريكي‏,‏ وبالتالي استعاده التوازن النفسي للمواطن الامريكي تتطلب عملا يفوق في ضخامه ما حدث يوم الحادي عشر من سبتمبر‏,‏ يؤكد مصداقيه واحقيه قياده العالم من ناحيه‏,‏ ويشكل رادعا لكل من تسول له نفسه محاوله التشكيك في هذه القياده‏(‏ ليست امريكا التي تضرب في عقر دارها‏!!)‏ ان تداعيات هذا التحليل خطيره بكل المقاييس‏.‏فما يتم الاعداد الان ليس تصفيه اسامه بن لادن واتباعه‏,‏ وانما تصفيه الحسابات الحديثه والقديمه مع كل من اتهمته الولايات المتحده بالارهاب او مساندته في يوم من الايام في شكل عمل عسكري تصفوي لاتقف امامه حدود او سيادات دول سواء في افغانستان او في العراق او في ليبيا او في لبنان‏(‏ حزب الله‏)‏ او في الفلبين‏(‏ مجموعه ابو سياف‏)‏ او الجهاد او حماس‏(‏ وقد تترك هاتان الاخيرتان لاسرائيل‏)‏ او في السودان‏..‏ وقد يكون هناك اخرون مرشحون للتصفيه ايضا‏..‏ ان الاقدام والقنابل الامريكيه ستطا اراضي كثيره في مستقبل الايام القادمه‏,‏ ولعل شواهد كثيره تشير بقوه الي احتمال تحقق هذا الطوفان القادم‏:‏ا ضخامه الميزانيه المرصوده من الكونجرس للحمله الامريكيه القادمه‏(40‏ مليار دولار امريكي منهم‏20‏ مليارا للعمل العسكري فقط‏,‏ ولعله يصعب تصور رصد مثل هذا المبلغ فقط لتصفيه اسامه بن لادن او حتي مسح افغانستان كلها من علي خارطه الكره الارضيه‏).‏ب حمله الحشد الامريكيه الضخمه للتاييد العالمي تحت شعار‏(‏ محاربه ومواجهه واقتلاع الارهاب‏)‏ فالتوقيت مناسب تماما والتعاطف مع امريكا في محنتها في اعلي درجاته‏,‏ وبالتالي شرعيه العمل العسكري الامريكي مكفوله‏(‏ شرعيه دوليه سواء صدرت عن طريق الامم المتحده او لم تصدر‏,‏ فهي امر واقع رصدته شاشه التليفريون في كل دول العالم‏)‏ وبالتالي لا يمكن للولايات المتحده من منظور مصلحتها ان تؤجل مثل هذا العمل لوقت اخر‏.‏ج الحشد العسكري الهائل ممثلا في استدعاء اكثر من ثلاثين الفا من الاحتياطي ووضع الاساطيل الامريكيه السادسه والسابعه وقواعدها الجويه في حاله التاهب القصوي وتفعيل الاحلاف العسكريه الامريكيه في اوروبا واسيا واستراليا هو استعداد كامل لحرب عالميه تدور رحاها في اكثر من بلد في وقت واحد‏.‏د‏.‏ غياب القوي العظمي الرادعه لمثل هذا الاجتياح المتوقع‏,‏ بل ان دولا مثل الصين وروسيا لا يتوقع معارضه مثل هذا المخطط الا اذا اقترب تنفيذه من خطوط التماس مع امنها القومي‏,‏ ولااعتقد ان امريكا ستدفع به الي ذلك المدي‏(‏ ان احتلال افغانستان بريا باعداد ضخمه من القوات الامريكيه او الاطلسيه قد يشكل تهديدا امنيا لروسيا‏,‏ وهو مايرجح ان الحشود البريه هي اعداد فعلي للوجود في مناطق مختلفه من العالم في نفس الوقت‏).‏ه ان التاني الامريكي في الرد رغم تاجج مشاعر الغضب في امريكا ليس حكمه وبعد نظر من الاداره الامريكيه كما وصفه البعض بقدر ماهو انتهاز لفرصه حقيقيه سانحه لترتيب خارطه العالم باراده منفرده وفي اطار شرعيه دوليه ودعم اطلسي كامل لن تتاتي لامريكا مره اخري‏..‏ وبالتالي فان بعض الذين سارعوا في دعمهم وتعاطفهم مع امريكا ابان وقوع احداث‏11‏ سبتبمر لايعرفون انهم سيكون ضمن الاهداف المرشحه للضرب في المخطط الامريكي القادم‏.‏ان الاداره الامريكيه تتعامل مع محنتها الان من منطلق‏(‏ رب ضاره نافعه‏),‏ وذلك بالطبع يمثل درجه عاليه من الذكاء والمكر السياسي يمثله الثلاثي‏(‏ باول‏,‏ كوندوليسارايس‏,‏ وديك تشيني‏,‏ ورامزفيلد‏..‏ مع التنويه بان ثلاثه من هذه المجموعه هم مهندسو حرب الخليج‏).‏ان نجاح هذا المخطط سيجعل كثيرا من التسويات الاقليميه ومن ضمنها الملف الاسرائيلي الفلسطيني يتم بشكل حاسم وسريع لا مجال لمصطلحات التفاوض‏,‏ والحقوق الثابته‏,‏ ومباديء تقرير المصيرفيه‏...‏ انظمه كثيره مرشحه للاختفاء‏...‏ ومنظمات كثيره ستفقد مصداقيتها وشرعيتها وعلي راسها الامم المتحده ذاتها‏..‏ ان تحالفا بين الصين وكثير من دول العالم الثالث والرابع يلوح في الافق في الامد البعيد‏,‏ من التداعيات المحتمله لتنفيذ مثل هذا المخطط ايضا تفجر الصراعات الدينيه بشكل دموي ليس علي مستوي الدول والحضارات فقط‏,‏ ولكن علي المستوي المحلي داخل كثير من الدول التي تحتوي تركيبتها الديموغرافيه طوائف واقليات دينيه‏...‏ان عوامل كثيره قد تحول دون تحقق هذا المخصص او قد تنجح علي الاقل في تقليص مداه علي مستوي المكان والشكل والمضمون‏.‏ منها مايلي‏:‏‏*‏ ان تنجح بعض الاصوات في اوروبا وفي اماكن اخري في اقناع الاداره الامريكيه بالعدول او الاعتدال في تنفيذ المخطط‏,‏ ولعل زياره شيراك القادمه الي الولايات المتحده تكتسب اهميه خاصه من هذا المنظور‏.‏‏*‏ ان يتم استيعاب الحقيقه التي رسخها يوم الحادي عشر من سبتمبر بان الافراد والمجموعات يمكنهم ان يصبحوا لاعبين مؤثرين في مجريات السياسه الدوليه‏(‏ ان ظاهره الاستشهاد في المضمون الفلسطيني‏,‏ والان في المضمون الامريكي قلبت كثيرا من مفاهيم القوه العسكريه والتفوق التكنولوجي كمعايير احاديه تعكس القدره علي الفعل والتاثير‏,‏ بل والتفوق ايضا‏),‏ وبالتالي فان تنفيذ المخطط الامريكي المحتمل سيؤدي بدون شك الي تفريخ مزيد من اجيال الاستشهاد والتضحيه‏,‏ وبالتالي قد يدعو ذلك البعض الي التعامل مع اسباب المشكله بدلا من اعراضها‏.‏‏*‏ ان يحدث تغيير ملحوظ في دعم الراي العام الامريكي بعد ان يبدا المخطط‏,‏ ويبدا كثير من جثث الضحايا الامريكان في بقاع كثيره في العوده الي امريكا‏(‏ وهي مشاهد تكررت كثيرا اثناء حرب فيتنام ادت الي تغيير ملحوظ ورفض واضح للتورط الامريكي في فيتنام‏),‏ وبالتالي سيكون ذلك عاملا ضاغطا علي الاداره الامريكيه رافضا لاستكمال تورطها الخارجي‏,‏ اكدت استطلاعات الراي العام ان اكثر من‏86%‏ من الامريكيين يؤيدون عملا عسكريا خارجيا للانتقام‏,‏ ولكن في حاله اكتشاف مدي وحجم الحمله المحتمله‏,‏ فقد يبدا هذا الدعم في التلاشي التدريجي‏.‏‏*‏ ان يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر يقدم فرصه ذهبيه وحقيقيه للولايات المتحده الامريكيه لتعيد صياغه النظام الكوني الجديد من حيث شكله ومضمونه بما يتوافق ومصالحها‏,‏ ولكنني ادعي القول انه يمكنها تحقيق ذلك من خلال وسائل اكثر تحقيقا لشرعيه قيادتها لهذا النظام‏,‏ واكثر ضمانا لاستمراريته‏.‏تاسيسا علي كل الهواجس السابقه‏,‏ فان الخريطه الكونيه مرشحه لتعديلات وتغييرات عده قد تكون دمويه في اغلبها وذات اثار بعيده المدي قد تشكل مجري احداث تاريخ البشر لعشرات من السنين قادمه‏.‏

نشرت هذه المقالة في جريدة الأهرام في 19 سبتمبر 2001

Friday, September 08, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -خاتمة

إن الدرس الأعمق و الأكثر أهمية في كل ما حدث خلال الثلاث و الثلاثين يوما هو أنه يؤكد بشكل لا يقبل الجدل أن قدرة الصغار على التأثير في عالم اليوم أصبحت تتعاظم بشكل راسخ غير قابل للارتداد. إن الأفراد و الجماعات في عالم اليوم يكتسبون قدرات متعاظمة على التأثير في مجريات الأحداث داخليا و خارجيا، و ما تتيحه تكنولوجيا العصر و ثورة الاتصالات من إمكانات تتزايد بشكل متسارع أضاف لهذه القدرات الفردية أسلحة إضافية تختصر الزمان و المكان. إن جوهر القوة اليوم يكمن في البقاء للأسرع و قد أكدت أحداث الثلاث و ثلاثين يوما كيف تمكنت مجموعات صغيرة بقدرتها على الضربات الخاطفة و المباغته أن تتغلب على ضخامة و شدة الآلة العسكرية لرابع أقوى جيوش العالم و بالتالي لكل أولئك الباحثين عن دور في قضية التغيير اليوم أن ينظروا تحت أقدامهم و في مجالهم الأضيق فسيجدون الكثير الذي من خلاله يستطيعون أن يحدثوا فرقا فقد تبدلت الأدوار اليوم فلكل منا دوره داخل متر مربع صغير و لكنه قد يكون الركيزة الأساسية في صنع الغد القادم

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -3

و تداع خامس يمكن رصده بشكل واضح متمثلا في اختفاء حدة الألوان التي كانت سائدة عشية اندلاع المعارك فكثير من المراهنات و الانحيازات الواضحة توقفت مع دخول المعارك يومها التاسع بسبب الرفض الأمريكي المتعنت لوقف إطلاق النار مما أحرج كثيرا من الأنظمة في المنطقة الذين راهنوا بانحيازهم الكامل إلى الموقف الأمريكي الإسرائيلي على كسر شوكة المقاومة اللبنانية تحت ذريعة محاربة الإرهاب أو ضرب الامتداد الإيراني في المنطقة. و مع زيادة حدة المعارك و سقوط المزيد من القتلى المدنيين دخلت كثير من المواقف الرسمية العربية في حالة من انعدام الوزن و فقدان الاتجاه و بدا واضحا و للمرة الأولى حتى لأكثر الأنظمة العربية صداقة مع الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تقف موقفا محايدا أو ما يسمى الوسيط النزيه في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فقد كانت حالة الأنظمة العربية مثل المعلقة في الهواء لا هي متجذرة في شوارعها و لا هي قادرة على التبني الواضح و الصريح للموقف العدائي الأمريكي السافر. خلاصة القول أن الإدعاءالرسمي العربي بأن أمريكا يمكنها أن تكون وسيطا نزيها في حل النزاع قد انتهت إلى غير رجعة بسبب معارك الثلاث و ثلاثين يوما.

و لعل هذا التداعي يقود مباشرة إلى تداع أكثر عمقا و يتجسد في المعضلة التي تجد الأنظمة العربية نفسها فيها اليوم، فهي الآن بين شقي الرحى. فانتصار حزب الله كنموذج لتيار إسلامي مقاوم يتصف بالعصرية و الوطنية في آن واحد يخيف الأنظمة العربية ليس فقط من انتشار نفوذه و مريديه داخل الشوارع العربية و لكنه قد يشكل نموذجا يحتذى لكثير من الشباب العرب خصوصا في ظل خواء الأنظمة و عدم وجود قوى سياسية أخرى لها من المصداقية و الإقناع ما يجعلها منافسا محتملا في النفوذ و التأثير لنموذج حزب الله. و في الطرف الآخر فإن اتخاذ موقف عدائي معلن من حزب الله قد يصنف هذه الأنظمة كما كان الحال في بداية الحرب بأنها تقف مع الولايات المتحدة و إسرائيل في خندق واحد في مواجهة قوى المقاومة الوطنية الأمر الذي سيزيد من اتساع الهوة بين هذه الأنظمة و شعوبها و بالتالي يدفع بأزمة شرعية تواجدها إلى آفاق أبعد.

و تأسيسا على هذا التحليل بالذات يمكننا قراءة و فهم المحاولات العربية الرسمية محاصرة التأثير السياسي المحتمل لحزب الله بعد الحرب و ذلك باتباع خطين متلازمين يشكلا في التقائهما سورا عاليا تحاول من خلاله الأنظمة تحجيم الدور المستقبلي لحزب الله و عزله عن أي تأثير محتمل في الشارع العربي. الخط الأول هو الادعاء علانية بأن حزب الله يمثل اليد الطولى لإيران و بالتالي فإن الوقوف ضده هو وقوف ضد الأطماع الفارسية في المنطقة و تحجيم للنفوذ الشيعي الذي بدأ يشتد و ينتشر خصوصا في ضوء ما يحدث في العراق. و الخط الثاني هو محاولة ربط الدمار الهائل الذي تعرضت له البنية التحتية اللبنانية و الإقتصاد اللبناني و أعداد القتلى المدنيين بسبب وحيد يتمثل في أسر الجنديين الإسرائيلين و "التصرف غير المسؤول لحزب الله". الهدف الأبعد لهذين الإدعائين هو خندقة حزب الله و حصره في موقف المدافع و من ثم منعه من جني ثمار انتصاره و صموده و بالتالي منع تعاظم نفوذه في المنطقة العربية، و في حالة تحقق ذلك فإن حزب الله يخسر سياسيا ما كسبه في معارك الثلاث و ثلاثين يوما. و من هذا المنظور تحديدا لعلي أخالف السيد حسن نصر الله الرأي بأنه لو كان يعرف مسبقا حجم الرد الإسرائيلي ما كان ليقدم على عملية أسر الجنديين الإسرائيليين. إن مثل هذا المنطق يعطي المبرر و المصداقية للإدعاء الثاني الذي أشرنا إليه آنفا مما قد يدفع إلى ترسيخه و تأجيج حدته.

إن اسكتمال متطلبات النتائج السياسية لمعركة الثلاث و ثلاثين يوما تستدعي من المقاومة اللبنانية التأكيد على أن عملية أسر الجنديين الإسرائيليين كانت إجهاضا مبكرا للمخطط الإسرائيلي المعد مسبقا بإيعاز و تنسيق كامل مع الإدارة الأمريكية بتصفية حزب الله كما هو الحال مع حماس تحت ذريعة محاربة و تصفية بؤر "الإرهاب الإسلامي" في المنطقة. كما تستدعي النتائج السياسية للحرب أن يستثمر حزب الله قواعد شرعيته الشعبية التي تأسست في كل الشوارع العربية و ألا ينجر إلى موقف دفاعي يحاول من خلاله نفي الإدعائين السابقين.

و لعله تلوح في الأفق البعيد بوادر إرهاصات أولية لتحالفات قد تتغير في المنطقة في حالة واصلت المقاومة صمودها في العراق و لبنان و فلسطين. قد تتهاوى أنظمة و قد تتغير أوراق اللعب، كانت المصلحة الأمريكية طيلة التاريخ الأمريكي و لا زالت هي المحرك الأول للسياسة الخارجية الأمريكية و لو تبدى صانع السياسة الأمريكي و اتضح أن من يحركون الأحداث و يؤثرون في حركة الشارع العربي في هذه المنطقة من العالم هو غير حلفاء و أصدقاء الأمس فلن تتورع إدارة البيت الأبيض أيا كان نوعها في محاولة مد جسور التعارف أولا ثم الصداقة لاحقا مع من يملكون القدرة على التأثير في صنع مستقبل المنطقة سياسة و اقتصادا. و قد يبدو هذا التداعي غريبا و يخالف المنطق الأيديولوجي لدى الكثيرين، إلا أن استقراء السياسة الخارجية الأمريكية منذ مبدأ مونرو و حتى الآن تدعم جنون قراءة هذه الإرهاصات.

Tuesday, September 05, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -2

تقودنا القراءة السابقة إلى التداعي الثالث للحرب السادسة و الذي يعتبر في رأيي أكثر التداعيات أهمية من الناحية الاستراتيجية و الذي يتمثل في إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي بين العرب و إسرائيل، ذلك الميزان الذي كان دائما و منذ نشأة الدولة اليهودية في صالح إسرائيل باستثناء الخمسة أيام الأولى من حرب أكتوبر 1973. إن نظرة إسرائيل لذاتها و نظرة الآخرين لها بأنها الدولةالتي لا تقهر قد ترسخت على مر السنين بسبب الهزائم العربية المتتالية. و قد انتقلت هذه النظرة منذ ثمانينات القرن الماضي و بشكل تدريجي متصاعد إلى كثير من أنظمتنا العربية حتى تحولت إلى قناعة راسخة وخطاب رسمي معلن يدعو إلى استحالة المواجهة العسكرية مع الآلة العسكرية الإسرائيلية و بالتالي ضرورة الإلتجاء إلى ما يسمى بجهود السلام كحل وحيد للصراع العربي الإسرائيلي. و بغض النظر عن مخالفة مثل هذا الخطاب لأبجديات علم السياسة الذي يحدد أن أية جهود دبلوماسية لحل الصراع دون استنادها إلى قوة تحميها هو جهد استسلامي يفرط و لا يصون، فإن خطورة هذا الخطاب تتمثل في انتشاره إلى الأجيال الجديدة و التي لم تشهد أيا من المواجهات العربية الإسرائيلية فيتحول عندها إلى قيم راسخة و ثقافة سائدة.

و من ثم فإن ما أنجزته المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله يشكل كسرا حادا لهذا الاتجاه و التوجه و يرسم إنموذجا مشرفا أمام ألأجيال الشابة يشعرها بالفخار و الكبرياء و ذلك من خلال استعادة الثقة بالنفس و كسر أسطورة "إسرائيل التي لا تقهر" . إن إعادة التوازن إلى ميزان القوى النفسي يشكل ركيزة استراتيجية و أساسا قويا لأية مواجهات قادمة بين المقاومة و إسرائيل. إن التحقيقات التي تجري الآن في إسرائيل لكشف أسباب إخفاقات الجيش الإسرائيلي المتعددة أثناء الحرب تجسد في معناها الأعمق محاولة إسرائيلية لاستعادة صورة الذات التي تزعزعت و محاولة إصلاح ما أفسدته ضربات المقاومة اللبنانية في الوعي الجمعي الإسرائيلي، ذلك الوعي الذي يشكل الجوهر في وحدة الشعب الإسرائيلي.
و معارك الثلاث و ثلاثين يوما تحمل معنى خاصا و دلالة ذات مغزى لصانع
السياسة الخارجية الأمريكية و هو يخطط حركته المستقبلية تجاه إيران، فقد يكون ما حدث هو إنذار مسبق لما يمكن أن تؤول إليه أي مغامرة عسكرية أمريكية أو إسرائيلية ضد إيران خصوصا لو اتخذت تلك المغامرة شكل تدخل عسكري بري في الأراضي الإيرانية. و المغزى الآخر الذي لا يقل أهمية هو ما يمثله درس المقاومة اللبنانية بالنسبة للمخطط الاستراتيجي في المنطقة الذي كان يهدف و لا يزال إلى تصفية مراكز ما يعرف بالإرهاب الإسلامي. قد تكون هذه محطة توقف غير متوقع أفسد كثيرا من الحسابات خصوصا أنه سيؤجج حدة المقاومة في العراق، كما يرسم نموذجا محفزا لحماس في الأراضي الفلسطينية حتى و إن اختلفت ظروف الجغرافيا و اعتبارات وحدة القرار.
و تداع رابع يستحق الرصد و الحوار يتجسد في المؤشرات الواضحة التي كشفت عنها معارك الثلاث و ثلاثين يوما و التي تدل بشكل قاطع على ما حصل في التخطيط و الإدارة العلمية للمعارك فمفاجآت التطوير التكنولوجي أيا كان مصدره و الذي تبدى في الأسلحة المضادة للدبابات و أنواع الصواريخ المتعددة المدى و كذلك عمق الأنفاق التي حفرت بما يتجاوز مدى القنابل الأمريكية الموجهة بالليزر و الاختراق الواضح للأجهزة الأمنية الإسرائيلية و كذلك نجاح حزب الله في الحفاظ على كل خططه و مخططاته في طي من الكتمان و بعيدا عن الإختراق المخابراتي الإسرائيلي، كل ذلك يشير بوضوح إلى عقلية علمية فذة في تخطيط و إدارة المعركة بشكل غير مسبوق في تاريخ مواجهاتنا مع العدو. إن التخطيط و الإعداد هذا كان العامل الفيصل وراء المفاجآت المتعددة التي أربكت الإدارة الإسرائيلية للمعركة بدءا من ضرب البارجة الإسرائيلية و مرورا بتدمير العديد من دبابات الميركافا و انتهاءا بطول مدى الصواريخ التي اطلقت على إسرائيل و التي ظل آخر مدى لها لغزا لم يكشف حتى بعد أن وضعت الحرب أوزارها. إن التخطيط كمهارة أعدت للمعركة و أدارتها يشكل علامة بارزة في النموذج الذي يقدمه حزب الله حتى في أمور و مجالات الحياة الأخرى حتى قبل الحرب. و تتمثل الأهمية الاستراتيجية لهذا النموذج في أنه يقدم ردا عمليا على دعاوى اتهام النموذج الإسلامي بالإرهاب و التخلف و البربرية. إن هذا النموذج الإسلامي المتحضر يتجسد بشكل جلي في انضباطيته العالية في إدارة المعركة حيث كان استهدافه الأول للآلة العسكرية الإسرائيلية مستبعدا أية أهداف مدنية من عملياته في الوقت الذي كانت الأهداف المدنية أولوية واضحة في هجمات و عمليات العدو الإسرائيلي تشهد بها أرقام القتلى من المدنيين مقارنة بما سقط من شهداء من حزب الله.

و من تجليات هذه الإدارة العلمية للمعركة كان نموذج الإدارة الإعلامية لها مقارنة بالإدارة الإسرائيلية للمعركة، فقد اتضحت أبعاد المصداقية التي اكتسبتها المقاومة اللبنانية إعلاميا مع توالي المعارك الحربية مما أكسبها مصداقية عالية حتى لدى وكالات النباء العالمية في الوقت الذي فشلت فيه الإدارة الإسرائيلية في تقديم البراهين و الدلائل على كثير من ادعائاتها و قد وصل ذلك الفشل إلى مأزق إعلامي حقيقي إبان حدوث مذبحة قانا. إن التناول الإعلامي الرصين و الصادق مضافا إلى التخطيط العلمي الذي سبق و واكب المعارك قد ساهم في رسم صورة إيجابية لنمط قيادي من نوع جديد سرعان ما التفت حوله الشوارع العربية، و لعل سرعة التفافها هذا يعكس ليس فقط شعورا طبيعيا للشارع العربي إبان المواجهات مع العدو الإسرائيلي و لكنه يجسد أيضا تعطشا شعبيا لوجود قيادة مقنعة تكتسب شرعيتها من تجسيدها لأحلام الشارع العربي أكثر من استنادها إلى شرعية السلطة، و لعل هذا الأمر الأخير في حد ذاته يعد مؤشرا غير إيجابي بالنسبة لكثير من الأنظمة العربية الرسمية التي راهنت على سقوط حزب الله في ساعات أو أيام المعركة الأولى فإذا بالنتيجة تأتي عكس توقعاتها و مخيبة لأمالها.

Monday, September 04, 2006

قراءة في دفاتر لم تكتب بعد في الحرب السادسة -1

جديدة هي بكل المقاييس تجربة الثلاثة و ثلاثين يوما من المقاومة و الصمود و الكبرياء على تاريخنا العربي المعاصر، و من ثم فإن التسرع في إصدارالأحكام و بلورة الرؤى و إسهاب التحليلات قد تكون كلها غير ذات جدوى سواء في شكلها أو في مضمونها.

و لعلي أدعي أن إطار الإدراك العربي في تاريخه المعاصر و بالتحديد في نصف القرن الماضي و ما أفرزه من مفاهيم و أدوات تحليل شكلت خطاب المثقف العربي لا تستطيع جميعها أن تتعامل مع حجم و مضمون ما تم في الثلاثة و الثلاثين يوما، فأدوات تحليلنا كانت و لا زالت في معظمها أدوات رد فعل لهزائم و انكسارات متتالية تبحث عقب الهزائم و الانكسارات عن أسباب لتلك الهزائم و عن متهمين وراء الانكسارات و بالتالي كان الخطاب في مجمله خطابا نقديا يتصف بجلد الذات أو جلد الآخرين. و أدوات تحليل بهذه الصفة لا يمكنها أن تتعامل أو تصلح لفهم ما حدث في الأيام الثلاثة و الثلاثين و بالتالي قد نكون في حاجة لإطار إدراكي مختلف و أدوات تحليل مختلفة تعين على فهم ما حدث و استقراء تداعياته.

فلا بد لنا من إعمال أدوات إبداعية تساعدنا على تخيل ماذا يمكن أن يحدث للتحالف الأمريكي الإسرائيلي لو تكرر ما حدث في الثلاثة و ثلاثين يوما مرة أخرى أو مرتين. هل يمكن أن يحدث ذلك شرخا في قناعة أمريكية راسخة عبر الزمن و أكدتها الهزائم العربية المتتالية بأن إسرائيل هي الأمين القوي الحارس للمصالح الأمريكية الاستراتيجية في المنطقة؟ و هل لشرخ آخر أن يتبلور في الوعي الاسرائيلي الجمعي حول الدولة الحصينة التي لا تقهر؟ و هل يمكن لذلك الشرخ أن يتعمق و يزداد اتساعا بشكل يجعل إسرائيل مهيئة نفسيا لفكرة السلام و هو ما قد يعطي جهود السلام فرصة حقيقية و أصيلة قد تكون هي الأولى من نوعها منذ نشأة إسرائيل و حتى الآن؟

هل يمكن لتداعيات بهذا الحجم و الأثر أن تتبلور و تتطور في الزمن المنظور؟ أعتقد أنها في مجملها جديرة بالحوار و التحاور بدلا من انغلاق الفكر و المفاهيم و أدوات التحليل داخل أسوارها التقليدية المجسدة في فكر المؤامرة أو التصنيفات أو خلافات الأيديولوجيا.

تداع آخر لعله هو أيضا جدير بنقاش و مناقشة و هو كيف تمكن حزب الله من امتلاك زمام المبادرة طيلة الثلاثة و ثلاثين يوما من المواجهة مع الآلة العسكرية الإسرائيلية و كيف أدى ذلك إلى إفقاد المخطط الإسرائيلي لتوازنه و دفعه إلى جملة من ردود الأفعال العصبية المتتالية. ماذا لو انتقل زمام المبادرة و تحول إلى منحى و توجه في مجالات السياسة العربية الرسمية و في مجالات العمل الشعبي العربي و في مجالات الاقتصاد و في مجالات الثقافة مجسدة في مبادرات التجديد الفكري و الإبداعي. إن امتلاك زمام الفكر و المبادرة و ما أحدثه من آثار إيجابية حددت و حسمت مسار المواجهة هو المسؤول الأول عن إطالة مدة الحرب لفترة أطول بكثير جدا مما توقعه الإسرائيليون و حلفاؤهم من خارج المنطقة و داخلها
هاتان فكرتان حول التداعيات الممكنة التي لم تحظ بالانتباه أو الاهتمام من قبل محللينا و مفكرينا ستتلوهما أفكار أخرى مما لم يطرق بعد رغم أهميته القصوى و في هذا الوقت بالذات.

Sunday, September 03, 2006

مراسم التعزيه في الشارع العربي رقم صفر

د‏.‏ محمود جبريل

ايقظه مذعورا من مماته صوت صواريخ كروز وازيز القاذفات الامريكيه وهي تدك ارجاء بغداد فتحصد الابرياء بالمئات بغداد عاصمه عربيه اصيله ومعقل الخلافه الاسلاميه التليد تحترق ضرب جدران قبره بيدين ضعيفتين بعث لهيب الغضب الذي يعتمل داخله فيهما قوه احدثت فجوه في جدران القبر فلملم اكفانه وخرج يجري الي شوارع المدينه العامره ليشارك الجموع غضبها وفعلها الرافض‏..‏ الشوارع صامته الحياه تسير حسب وتيرتها اليوميه ولا شئ يعكر الصفو‏..‏ لابد ان هناك خطا ما‏..‏ لم يصدق‏..‏ اتجه الي اقرب كشك لبيع الجرائد ليطالع عنوانها الرئيسي سلسله هجمات مفاجئه علي العراق بصواريخ‏(‏ كروز‏)‏ والقاذفات الامريكيه‏..‏ صاح في البائع الذي كان مشغولا ببيع قطع من شيكولاته مارس و الكيت كات لطفله صغيره‏..‏ دول ضربوا العراق ولاد الكلب نظر اليه البائع في استغراب ليه‏..‏ وهي دي اول مره‏..‏ ما كله من ابن‏..‏ هو السبب في كل ده‏..‏ جاب الخراب لبلده ولشعبه‏...‏ رد في جنون بس دول بيدمروا البلد ويقتلوا الابرياء انا مالي ومال ابن‏..‏ هم بيضربوه هو والا بيضربوا العراق‏..‏ انت بتقول نفس الكلام اللي هم بيقولوه ان احنا بنضرب صدام وبندمر قدرات صدام‏..‏ ايه اللي بيحصل ده وهو انا فين بالضبط‏..‏ رمي بالجريده ارضا واندس بسرعه في الزحام يلتقط اخبار تدمير بغداد ووقعها علي الناس وتتالت المشاهد امام عينيه السيارات الفارهه‏..‏ اعلانات الكوكاكولا والبيبسي وماكدونالدز وكنتاجي فرايد تشيكن‏..‏ وحس بغربه شديده واعياه المسير فلجا الي اقرب مقهي لينال شيئا من الراحه لجسده الواهن‏,‏ ولفت انتباهه حوار ساخن يدور بالقرب منه حول مدي تاثير ضرب العراق علي اسعار البورصه واسعار البترول وهل لو سقط نظام صدام ستكون هناك فرص عمل كبيره لاعاده بناء بغداد ام يا تري سيكون كله من نصيب الشركات الامريكيه؟ولفت كفنه البالي وضعفه الشديد انتباه احد المشاركين في الحوار فدس في يديه ورقه ماليه يعينه بها‏..‏ فكر مليا فيما يحدث ثم خطر بباله الاتجاه الي النخبه المثقفه اولا فهي التي تقود دائما فهؤلاء البسطاء في حاجه للتوعيه والتنبيه وقبل كل ذلك في حاجه الي تنظيم وقياده‏..‏ وان لم يفلح هذا الاتجاه وسيتوجه لكل المنظمات الاهليه بجمعياتها ونقاباتها واتحاداتها فهي الاوعيه المناسبه لتجسيد الرفض وللحشد والحركه‏.‏ واستقل سياره تاكسي كانت تقل سيده شابه وطفلتها‏,‏ واستلقي بجانب السائق الذي بدت علامات التافف علي وجهه عندما راي منظره الا انه انشغل عن كل ذلك بمتابعه حوار يجريه البرنامج العام مع استاذ العلوم السياسيه اللامع والشهير الذي اسهب في تحليل اسباب الهجوم الامريكي لتدمير بغداد حازما ان اصرار مجلس النواب الامريكي علي توجيه اربعه التهامات للرئيس كلينتون في قضيه مونيكا لونيسكي‏,‏ وكذلك فشله الذريع في اقناع رئيس الوزراء الاسرائيلي بالانسحاب حسب اتفاق واي بلانتيشن رغم وعوده بتقديم مساعدات باكثر من مليار دولار لاسرائيل‏,‏ كل ذلك كان السبب الرئيسي للهجوم الامريكي علي العراق في محاوله من كلينتون لتحويل الانظار الي مناطق سهله يستطيع ان يسجل فيها انتصاراته‏,‏ واكد المحلل الكبير في نهايه اللقاء انه بغض النظر عن الاعتبارات الاخلاقيه والتعاطف القومي‏,‏ فان اسقاط نظام صدام سيعيد الاستقرار للمنطقه هو الامر الذي سيدفع عجله الاستثمار والنمو الاقتصادي في المنطقه الي الامام‏.‏امتدت يد السائق تعبث بمؤشر الراديو وهو يزمجر هو احنا جابنا ورا الا السياسه‏..‏ دي كانت بلد ولا الجنه‏..‏ اصل انا اشتغلت هناك خمس سنين‏..‏ خساره والله‏..‏ كان علي وشك ان يستدرج السائق الي حوار عن شعوره تجاه تدمير بغداد الا ان صوت السيده في الخلف وهي تحاول اقناع طفلتها بتناول الغذاء في البيت بدلا من بيتزا هت الذي كانت الصغيره تلح في الذهاب اليه باصرار غريب حال دون ذلك‏..‏ طلب من السائق ان يتوقف امام مبني احدي منظمات العمل الاهلي وهي مؤسسه عريقه تضم لجنه متميزه من الشخصيات المعروفه بتاريخها النضالي وتوجهاتها الوطنيه المشرفه‏,‏ دلف علي عجل الي المبني واسترعي انتباهه الملصقات العديده في بهو الاستقبال تعلن عن مشاريع المنظمه وندواتها‏,‏ وتوقف بشكل خاص امام احد الاعلانات عن مناظره الاسبوع الماضي حول التمويل الامريكي للعمل الاهلي بين القبول السافر والرفض الخجول بين اثنين من الشخصيات العامه المعروفه وبينما هو في تجواله بين الاعلانات والملصقات راي امين عام المنظمه الذي كان مستغرقا في حديث جاد حول الهجوم الامريكي علي بغداد مع احد الاشخاص لابد من اعداد بيان باسم المنظمه لاستنكار ما حدث فمهما كان راينا في صدام فالذين يموتون هم اطفال وابرياء العراق‏..‏ ورد الشخص الاخر انا رايي مش كفايه يا فندم لا بيان استنكار ولا حتي ندوه نحشد فيها كل القوي الوطنيه ونقول فيها بيانات الاستنكار‏..‏ انا رايي لازم نعمل حاجه اكبر من كده‏..‏ انت عارف في الظروف اللي احنا فيها‏..‏ حتي بيان استنكار وادانه باسم كل القوي الوطنيه مش سهل ابدا علي بال ما نتفق علي مضمون البيان والصياغه تكون الحرب خلصت‏.‏كانت اخر خيوط الشمس قد بدات تتلاشي عندما غادر مبني المنظمه العريقه وبدات اضواء المدينه تضفي شكلا جماليا رائعا وهي تستعد لاستقبال الشهر الكريم‏,‏ ووسط كل هذه الاضواء تبدو اضواء اعلانات ثقافه الماكدونالدز راسخه شامخه مؤكده ان تغيرا جذريا قد عصف باولويات الشارع العربي‏,‏ وتزاحمت التساؤلات في ذهنه‏.‏هل كان العدوان ليمر بهذه السهوله لو كانت ثقافه جيله القديم سائده ؟ وهل كان موقف اولي الامر منا ليكون بهذه الصوره لو كان الشارع العربي بنفس قوه الاحساس والنبض الرافض؟وهل انتهي عصر الايديولوجيات حقا كما يقول فوكوياما ام هي سيطره الايديولوجيه والثقافه الواحده؟وهل ما كنا نتمسك به من احلام قوميه لم يعد صالحا لعصرنا هذا؟ ام انه لم يكن صالحا في اي يوم من الايام او لو كان صالحا لماذا لم يستمر؟ان التساؤل الحقيقي بعد كل هذه التاملات هو من الذي يدمر بغداد حقيقه الامريكان ام صدام ام نحن قاطني الشارع العربي رقم‏(‏ صفر‏).‏تعب من التفكير والسير وشده الحنين الي قبره فلملم اطراف اكفانه وحث المسير الي مقبرته لينام وهو موقن انه طيله تجواله في المدينه لم يغادر حقيقه لا المقبره ولا الموتي‏..‏انتهي اليوم الاول من قصف بغداد‏.‏

نشرت في الأهرام اليومية
‏1998 ديسمبر 21